الجمعة، 15 نوفمبر 2013

آف دومافيا آرجنتاريا ... في ذكري مذبحة رابعة العدوية .. 14 - 8 - 2013




 آف دومافيا آرجنتاريا ... في ذكري مذبحة رابعة العدوية .. 






أيها الصبح هل تلقيت تحية من لا بد أن يلقي حتفه ؟
تحية إنسان عليه أن يموت الآن ؟!

آف دومافيا آرجنتاريا ..
أديو ، بارتيا آرجنتي ..
Avo domavia argentaria
Audio, partria argeti !
الصلاة و السلام و التحية علي أرض أجدادي الفضية ..
عليك السلام و التحية يا أرض أجدادي الفضية ..
عسي أن تظلي مصونة في الأبدية ..
محمية عبر الخلود .. يا أرض أجدادي الفضية ..!!
الأنشودة السابقة كنا نرددها كثيرا .. بلا سبب في الكتاب لما كنا صغارا، و حتي كبرنا، أجدادنا يعلمونا إياها، و لا نعرف السبب يعتقدون أن سربرينيتسا ستزول .. الوضع لن يستقر .. علي الرغم من هدوئه الظاهر.
اسمي " أيرين " إبنة هذا المكان .. أوه ، أنتم لا تعرفون هذا المكان .. هنا سربرينيتسا .. المدينة الأمنة .. هنا كانت آرغتاريا الفضية التي اختفت بلا سبب معلوم .. و هنا أيضا كانت مدينة دومافيا الذهبية التي لم تعد لها أي وجود ، و هنا كانت سربرينيتسا القروسطية ، التي دمرت وهنا أيضا كانت سربرينيتسا .. يا رب يا رحيم كن معنا .. لا تدعنا نشاهد تدمير بلدتنا الفاتنة، ستخلد هذه المدينة .. نعم أعلم أنها ستخلد ، هذا الجمال و هذه الروعة هي خالدة بلا شك !
أذكر السلطان محمد الفاتح أكاد آراه رأي العين، و قد قدم ليفتح مدينتنا، رأى رؤياه الغريبة، رأي في منامه الخلفاء الراشدين الأربع و لكنه لم يري " عمر بن الخطاب رضى الله عنه " و فسرها له شيخه درويش:
" يا جناب السلطان .. لقد تقوض منامك الذي رأيته بشأن هذه الأرض .. الآن أنهارت هذه الرؤيا الجميلة و تداعت .. فسيدنا عمر رضى الله عنه فوق كل مزاياه التي جعلت منه خليفة والتي ستجعل منه مثالا و قدوة للمؤمنين إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .. كان قبل كل شيء رجلا منصفا و عادلا، و نظرا لأنك رأيت سيدنا أبو بكر فإن البوسنة ستصبح أرضا غنية، و لأنك رأيت في منامك سيدنا عثمان فإن البوسنة ستصبح أرضا تقيه يسكنها المؤمنون الأتقياء، و لأنك رأيت فى منامك سيدنا علي فإن البوسنة ستصبح أرضا للمجاهدين، لكنك لم تري – يا مولاي – سيدنا عمر و لهذا فإن هذه الأرض لن تعرف العدل يوما في تاريخها الطويل، لم يكن فيها أي نوع من العدالة و لن يكون .. إن هذه الأرض محكوم عليها بالظلم يا مولاي "
لما قص شيخي "عبد الله "  علي الرؤيا انقبض قلبي و جزعت .. سألته وقتها:
-         يا شيخي أرضنا عادلة .. عادلة جدا.
و أمسكت يده و أخرجت بها خارج الكتاب، و قلت:
- انظر يا شيخي.
كانت القرية تتلألأ تحت أضواء الشمس التي كانت للتو تشرق، كانت تلمع و كأنها سفينة تسبح في أمواج ذهبية .. كانت سربرينيتسا رائعة .. حتي اسمها فخيم موسيقي مثل منظرها .. أولئك الإنس الذين يسيرون علي أرضها للتو أنهوا صلواتهم الفجرية ، كانوا كأنهم ينزلقون على الأرض بخفة .. حتي الصرب بيننا يعيشون كأنهم  مسلمون ، معلمتي في الصف .. هي صربية تحبني وأبناؤها أصدقائي .. أين الظلم يا شيخي؟
هذه أرض خلا منها العدل يا شيخي !
عجبا لأمرك!
" أيها الناس .. هذه أرض آمنه .. آمنة جدا
أيها الناس .. هذه أرض عادلة .. هنا حيث العدل ..
أيها الناس .. نحن لا نظلم أحدا .. أبدا ..
أيها الناس سربرينيتسا ... آمنة .."
كتبت هذه الكلمات قبل أيام قليلة .. تحت اسمي أيرين .. و كررتها .. لم أعرف ما الذي سيحدث بعد أيام .. كنت طفلة !!
بعد أيام أخبرني أبي أننا حصلنا علي الاستقلال .. لم أفهم معني الكلمة تماما، و لكن فهمت أننا نحن المسلمون سيكون لنا دولة مثل باقي الدول ذات الديانات المختلفة من حولنا، أعتقد أنه شيء جيد أن يكون لنا علم ، وأهزوجة ترددها روحك كل يوم، هو أمر ممتع بالتأكيد.
أخبرني أبي أننا كجزيرة وسط بحر، نحن دولة مستقرة وليدة من حولنا أناس " مختلفون " لم أفهم المشكلة تماما فنحن هنا في سربرينيتسا و من حولنا مختلفون ؛ ما الجديد إذن ؟
علمت أن الأمم المتحدة اعترفت بنا و أننا لم نعد ننتمي لما يسمي يوغسلافيا بل أصبحنا الدولة الرابعة .. كانت هناك سلوفينيا ، كرواتيا ، مقدونيا ثم نحن " جمهورية البوسنة و الهرسك " شعرت بالفخر ..
أخبرني أبي أن هناك مشكلة واحدة أننا دولة محظور عليها الأسلحة، لم أشعر بالضيق لكنني شعرت أن أبي يبالغ في ضيقه من هذه القضية.
نحن لم نعتدي يوما علي أحد و بالتالي لن يعتدي علينا أحد.
" جمهورية البوسنة و الهرسك .. اذكرها أيها التاريخ .. فهي بالتأكيد ستدخل التاريخ و لن تخرج"
رددتها عدة مرات ، احتضنت لعبتي القطنية، و استسلمت للنوم، أحلم بالبوسنة و الهرسك..
نحن الآن في العام 1992 بدأ الهجوم بلا مقدمات علي جمهوريتي " البوسنة والهرسك " عرفت أن هناك جيشين يعتديان علينا .. الجبل الأسود و جيش آخر هو الجيش الصربي ..
نحن ما زلنا دولة " محظور عليها امتلاك السلاح "
مرت الأيام علينا بصعوبة ، ازدحم المنزل ، و اكتملت المأساه ، لما بدأت القذائف تهوي فوق رؤوس القرى المجاورة، بدأ الطعام ينفد، و لا إمكانية للخروج، خرج الرجال للدفاع، و لم يعد أحد، تسائلت بيني و بين نفسي عن جدوي الدفاع بلا سلاح، مجرد خردة، أصلا لم نتخيل أننا في يوم من الأيام سنضطر للدفاع عن بلدنا، كانت دائما الأمور هادئة، مسلمون و صرب، الجميع بجوار الجميع ، منازلنا متلاصقة جدا .. الود متصل.
كان المهاجمون هم عصابات التشيتنيك  جيوش صربية و هم يكرهوننا .. فقط !
لماذا يكرهنا التشيتنيك  ؟؟
لا أعرف و لم أستطع أن أجب، هناك شئ خاطئ ، هم يحبوننا .. نعم يحبوننا ..
بدأت المساعدات تأتي إلينا من " زيبا " القرية الشمالية ، لكنها كانت تأتي بثمن مرتفع جدا، تفشي المرض و الألم بيننا، مرضت أمي كثيرا، جلست بجوارها، و أبي غادرنا للحرب، غادر اللآجئون بعد أن نفد ما لدينا من طعام، قرروا الهجرة نحو الجنوب بعيدا عن الحرب قدر ما يستطيعون ..
فى عام 1993 بدأ الاعتداء الصربي .. لم أفهم ما الذي يحدث، فقط عرفت أن علينا الاختباء في أوقات محددة، علينا أن نأكل أقل، نحاول أن نخزن الأكل، بعد قليل تحول بيتنا إلي ما يشبه الملجأ، توافد العديد من اللآجئين إليه، كانت أمي تمنعني من الجلوس إليهم، لكن كانت الحكايات تتناثر هنا و هناك ، يتحدثون عن التشيتنيك  .. عصابات مسلحة تدخل للقرية أو المدينة فلا تترك أخضرا و لا يابسا.. لا عفوا .. كانت تترك برك الدماء من خلفها و القتلي بالأكوام !!
----------
" أنا إيرين الجميلة لن يصيبني سوء ..
أنا إيرين الجميلة لن يصيبني سوء ..
سيعود أبي يوما ما ..
ستشفي أمي قريبا جدا "
و ستعود سربرينيتسا يوما كما كانت و أجمل  ...
لا أعرف ما اليوم .. أمي لا تستطيع الكلام .. و أبي غادرنا ، و اختلطت الأيام ، لا كتاب لتحفيظ القرآن، شيخي اختفي، قال البعض أنه استشهد و قال آخرون أنه ما زال يقود المجاهدين.
----------
يوم لا أعرفه .. استيقظت مع صوت الديك فلم يعد هناك صلاة فجر؛ المساجد جميعها تهدمت، هذه المأساة طالت، أعرف أنها طالت جدا كما طلت أنا، أصبحت أكثر قدرة على تناول الأشياء من الرف الأعلى، أجيد فتح الأبواب و  غسيل الأكواب و استقبال الضيوف؛ أقصد اللآجئين وضيافتهم و تحمل شقاوة الأطفال .. كنت بهذا الطول ..
----------
مرض أمي يزداد .. و بين الفتور و الاشتعال كان القتال الذي أهلكنا ..
سربرينيتسا الذهبية ، التي كنت في يوم  أسير عليها و كأني بلقيس تسير علي عرش من الماء .. التي كنت أمضي فوق عشبها بخفة الطير خوفا من كل قشة فيها أن تنكسر تحت قدمي، مائها المنسكب و من خلفه الشمس بمشهد أعجز عن وصفه ..
الآن ينكسر من تحتي القش بأصوات قاسية و مؤلمة .. قديما لم يكن يتكسر .. هذا القش الذي كان يوما أخضر ا ناعما .. الآن يجرحني و ربما يحرقني و يحرق قدمي فقد كان مشتعلا ...
لم تعد سربرينيتسا كما كانت أبدا ، تحولت ، اختفت ، اندثرت .. سربرينيتسا الحزينة تبكي ..
اليوم كان مرعبا ، ارتجف قلبي .. آآه
آه يا قلبي، من يحتمل أن يعرف أن التشيتنيك يقفون علي حدود بلدته، و الرجال في الخطوط الأمامية لا يحملون إلا أقل الأسلحة، نعم هناك البطولات العتيدة إلا أن ذلك لا يكفي .. ما إن يدخل التشيتنيك حتي ينقضي علينا نحن .. أكثر من 10 آلاف شخص سيقتلون هنا بلا رحمة ..
هنا في سربرينيتسا التي كانت ذهبية .. قريبا ستصبح سربرينيتسا الدموية ..
-----------
العالم مسرح وما يدور مسرحية رديئة، العالم أصم و أعمي .. لا يري إن أراد ، و يري جيدا إن أراد .. قوات الحماية الدولية تنسحب من أماكنها، و تتجمع في معسكرها الخاص .. هذه القوات كان المفترض أن تحمينا من التشيتنيك و لكن هذا لم يحدث ..
الأمم المتحدة لم و لن تحمينا أبدا، هي في الأصل تمنعنا من الدفاع عن أنفسنا ..
-----------
اليوم كان دمويا جدا ..
أمطرت السماء مطرا؛ أمطرت حمما، و تحولت الأرض حماما حقيقيا من الدماء ..
إنهارت الأرض من تحتنا، و تفتت المقاومة، البيوت من فوق رؤسنا تنهار و الأرض من تحت أقدامنا تتزلزل !
التل الأخضر الكبير الذي ستحول إلي أسود قريبا، اليوم كانت القذائف تتهاوي من عليه و من عيني كانت الدموع تنهمر و تنهار و تحتضر ..
يا رب .. ما عاد يجدي البكاء ..؟
يا رب .. هل سمع أحد بنا ممن أخبرني أبي أنهم مسلمون مثلنا تماما، بالتأكيد لم يسمعوا و إلا أنقذونا، بالتأكيد لن يحتملوا أن يحدث لنا هذا ..
قتل من هم في أعلي التل جميعا، كل من سولت نفسه أن يعيش هناك أو يكون نازحا هناك، اليوم سربرينيتسا هي قبر كبير مفتوح، أو وادي من حوله الجبال و التلال، قبر حقيقي ينتظر من يأتي ليقوم بالمهمة الأخيرة .. إغلاق القبر !
بين الأشجار .. تناثر الناس .. بين الجوع و المرض و التعب، و هنا كان الجوع نوعان؛ جوع طبيعي و جوع معنوي، جوع الطعام و جوع الحياة، و أيضا مرضان؛ مرض نفسي، جن الناس من هول ما رأوه، و مرض حقيقي .. كان الجويتر ( مرض الغدة الدرقية ) هو المرض الأساسي الذي ساد بين الجميع، في سربرينيتسا لا ملح، الجميع يعرف اليود شيء نادر و لأن التشيتنيك يعرفون  ذلك منعوا الملح، فمرض الناس، و جنوا .. جنوا بمعني الكلمة ..
الأم المسكينة .. يموت رضيعها جوعا و عطشا و بين يديها تمسكه لأيام، حتي ينتزعه من في عقله بيقية باقية من عقل، يجذبونه غضا و قوة ليدفنوه تحت التراب ..
و بعد مضي الأيام ، أصبح الدفن رفاهية لا يقدر عليها أحد، كانوا يتركون القتلي علي جوانب الطرقات .. و الله يتولاهم ..
-----------
بين ا لأشجار تناثر الناس (عفوا هذا ليس نصاً مكرراً ) هذه المرة تناثروا قتلي و جرحي و من خلفهم تناثر جنود العصابات يكملون على كل جريح وكل قتيل ..
نعم كل قتيل .. كل قتيل لم تلوث و تمتهن جثته كانوا يقومون معها بكل واجب عليهم و علي أكمل وجه ..
ارتدوا الأزرق كما ترتديه قوات الحماية الدولية ، وعندما لجأ لهم البعض قتلوهم شر قتلة ..
و قوات الحماية الدولية انسحبت و اختفت كما اختفي صوت العالم عما يحدث، و عميت أعينهم عن مجازرنا .. هل هناك كلمة أفظع من هذا ؟
و هل هناك تعليق ؟
-----------
عفوا نسيت أن أتحدث عن سربرينيتسا و كيف أصبحت ...
السماء سوداء .. الأرض سوداء و أحيانا حمراء و لا شيء آخر .. تبسيط مخل !
 ربما .. هذه هي الحقيقة .. البيوت مدمرة و نهبت – عن آخرها بلا استثناء – و قبلها بأشهر كان القصف الرهيب تكفل بتدمير كل ما يمكن تدميره .. و الآن هو دور البشر .. كل من ذكر قتل سواء كان رجلا أو شابا أو طفلا أو حتي رضيعا و النساء رحلوا إلي حيث المعسكرا ت و لم يكن لهن أحد ...
أما أنا فكان لي شأن آخر ..
-----------
أما أنا فطفقت أهرب بين الأحراش و الغابات .. كنت آخر من هرب من القرية .. تستند أمي علي كتفي، و يتكأ كل منا علي الآخر .. و نحن الاثنتين الضعيفتين الهاربتين ؛ علي الصبر نتعكز.
تعبت كثيرا و بدأت أشعر بالهلوسة، شعرت كما لو أن كل ما حولي ينهار، علمت وقتها أن سربرينيتسا تموت و تلفظ أنفاسها الأخيرة..
كم اشتهيت كوبا من الماء و قليلاً من الملح، أما الماء فلحاجتي الطبيعة إليه .. أما الملح فلأخفف من الهلوسة و أؤخرها لقليل من الوقت أعتني فيه بأمي.
كنا نشرب من برك صغيرة تجمعت حول الأشجار .. لم تكن نظيفة تماما، أقصد لم تكن نظيفة علي الإطلاق ، لكن الحياة كانت مميتة.
أخبرتني أمي أن مساعدات من دول عربية كمصر و قطر و الإمارات ستصل قريبا، تخلينا عن الطعام ، وعشنا علي الأشجار مثل الحيوانات، نقتات من الأشجار طعامنا و غذائنا.
يا تري هل سمع بنا أحد ؟