الخميس، 18 أبريل 2013

فقير أنا


فقير أنا (قصة قصيرة)


في المواقف الحاسمة .. نسترجع شريط الذكريات ، نتذكر عهداً مضي وانقضى ولم يبق منه سوى الذكري: ذكرى الأحداث .. ذكرى الأشخاص.
أما أنا فأستعيد ذكرى الدافع ، ذكرى الهدف ، بخاطري يدور شريط الحياة ، كم هو أليم ؟ وكم هو حزين؟
أسندت رأسي على رأس مقعدي، سرحت بخيالي، تذكرت أيام العناء والشقاء ،أيام التعب والإصرار.
تذكرت أشخاصاً أدين لهم بالفضل، وتذكرت كلمات حاكم دبي وهو يقول: " لا يهم إن كنت أسداً أو غزالاً،  في كل صباح عليك أن تُسرع الخطى وتسبق غيرك حتى تحقق النجاح"
كلماتٍ حيوية ..  أحيت بداخلي العزم والهمة ، أشعلت بعضاً من الأمل في حياتي.
تذكرتُ ذاك المشهد، تذكرته بكل تفاصيله، لا يمكن أبدا أنا أنساه، كم هو مؤلم ؟
كم هو صعب ذاك الاختيار؟
صعب جدا أن تُخيَّر بين  خيارين كلاهما  أمَر من الآخر.
لا يهُم ذلك الآن.
أخذت نفساً عميقاً، لبست نظارتي، أخذت أتأمل في صمت.
أتأمل تلك المنصة الكبيرة، تلك الأعلام المختلفة مصر والسعودية والأردن وسوريا والكويت والإمارات وفرنسا وألمانيا وتركيا وأسبانيا .. والجوائز تأملتها، تأملت جيداً، بطبيعتي أحب التأمل.
و طبعا لمحت اسمي هناك، منقوشاً في أقصى اليمين.
الآن أو بعد الآن سيطلبوننى.
من المفترض أن أقوم الآن أو بعد الآن لأتحدث إليهم.
ماذا سأقول لهم ؟
أي كلام سأتكلمه ، أي خطاب سأخاطبهم ، أي أفكار سأخبرهم بها، و أي مشاعر و أي أحاسيس ، أو حتي أي خدعه سأخدعهم بها و أحتال بها عليهم .
سأقول لهم أنى لستُ أديباً كما يعتقدون.
وهل سأخبرهم بقصدي الذي من أجله كتبت و أبدعت، حتما سيرمقونني بنظرات الاحتقار والإهانة ، سينعتونني بالأحمق الحقير، ربما يسحبون منى جائزتي.
لحظات قليلة مرت ، ستمر لحظات أخرى وسينادون على.
أنا لست حقيرا.
أبدا لم أكن حقيراً .. أبداً لن أكون حقيرا.
لا أدري ماذا أصنع .. أعِنِّي يا رب.
لا أدري هل كان لزاما على أن أفعل هذا ؟
و لماذا كل هذا ؟
كان يكفيني ما أنا فيه.
أفقتُ وإحداهن تقف عن يميني، بلغة مهذبة و أنيقة:
-                 أنت عباس ؟
كنت جالساً، رمقتها ببعض نظراتي الخائفة المترددة ، وقفت وأجبتها:
-              نعم  .. أنا عباس.
-         أنا جُمانةُ الساعدي ..  قناة أوربت الفضائية.
ابتسمَت ابتسامة جميلة، صمتَت قليلاً وأردفت تقول:
-         في البداية مبروك فوزكم الباهر ..  كلنا فخورين بك يا عباس... لحظات وتتقدم لاستلام جائزة أفضل مجموعة قصصية ..
 ما هو شعورك سيدي؟
-         في الحقيقة أود أن أبكى.
-         ربما دموع الفرح سيدي  .. أخبرنا إذن ماذا ستفعل بالجائزة ؟
-      ماذا سأفعل بالجائزة ؟ سؤال محرج بالنسبة لي .. لكني سأجيبكِ و بكل صراحة .. أولا على أن أُسدد ديوني، سأحضر لأمي جلباباً جديداً .. ربما أعود لدراستي للطب التي توقفت منذ عامين، سأشترى جهاز حاسب آلي وسأشتري بذلة جديدة وحذاءا جديدا.
لم أنته من حديثي .. أقصد من أمنياتي  حتى سمعتهم يرددوا اسمي منعوتا بالفائز بأفضل مجموعة قصصية .
عباس عبد الله الساعاتي.
أفضل مجموعة قصصية بعنوان " الفقر"
أكلم نفسي ، أحاور نفسي : الفقر يفوز بأفضل مجموعة قصصية ، ليس الفقر وحده بل .. أقصد الفقر و أخواته من الجوع مثلا .. الملاريا مثلا .. الكوليرا .. كلها أمراض يعتبرونها للفقر إخوانا .. و البلهارسيا طبعا  .. 
تصفيق حار جدا، ربما أول مرة أرى أناسا يصفقون لي، شعور مذهل جدا ، لطالما تمنيته ، انتظرته يوما ما، كتبته في مذكراتي التي احترقت عندما احترق بيتنا.
كم هي جميلة تلك الموسيقى التي أسمعها الآن ؟
على أنغام الموسيقى حاولت أن أتقدم بين جموع الحضور، بخوف و تردد  بدأت أتقدم، وصلت إلى منصة التتويج، و بخجل الفقراء أمثالي صعدت المنصة ، لازالوا يصفقون ، صعدت ، و بخجل ألتفتُ إلى الحاضرين ، حاولت أن ألوح لهم بالشكر .
أذكر جيدا ذات مساء عندما تدخلت لأحل شجارا بين جياع حارتنا أن أحدا لا أعرف اسمه أخبرني أنني ربما أكون دبلوماسيا مشهورا، تنهدت حينها و أجبته بإصرار أني لا أحب السياسة.
لا يهم ذلك الآن .
المطلوب مني الآن أن أتحدث إليهم .
لأول مرة في حياتي أمسك بيدي مكبر صوت، و لأول مرة في حياتي أتحدث إلى جموع كثيرة كهؤلاء في مكان فخم كهذا ..
الأنوار في كل مكان تبهرني كفقير يزور مدينة لأول مرة فى حياته .. حقا تبهرني الأضواء وفى الوقت ذاته تجعلني أتوتر كثيرا.
أصابني التوتر، و صرت مرتبكا، أرى في عيون الحضور شغفا و شوقا لما سأقوله، لكني لأول مرة لا أدري ماذا سأقول.
   أحقا أنه عندما تتاح لك الفرصة لتتحدث ربما لا تجد ما تقوله، و كأن الكلام يهرب من عقولنا، أو أننا  بحق لا نعى كيف نتحدث أمام الآخرين.
 ماذا أقول.....؟
 هل سألعن الفقر .. الجوع .. البلهارسيا .. الكوليرا اللعينة ؟
أم سأخبرهم بديوني على صاحب المطبعة الرخيصة التي طبعت فيها كتاباتي الباهتة بسبب نقص  الحبر؟
هل أحكى لهم عن ذاك الحي الشعبي الذي أعيش فيه، و أم أمل بائعة الفول، و الفقير عباس بطل قصة الفقر و الولد    نجاد الجائع جدا بطل قصة الجوع ، و القذر شلاطة الذي قضي حياته ضحية للبلهارسيا و لم يُعالج منها بعد ؟
الكل يخطوا نحو عالم أكثر تطورا، عالم أكثر تقدما، و أنا أحدثهم عن حي شعبي فقير جاهل جائع ومريض !
فقر و ملابس وسخة ممزقة ....
و جهل و خزعبلات و أمراض يصاحبها أجساد بالية متعبة ومنهكة ومتهالكة فقدت صلاحيتها فى الحياة ..
 وأفواه جائعة مفتوحة دائما لا تجد ما يغلقها و لو مرة واحدة ولو بإحساس واحد ببعض الشبع أو ربما يسد الرمق. 
دعوني أخبرهم و بصراحة.
و لم لا ..؟
أليست الحقيقة ؟
سأخبرهم، سأتغلب على خجلي، وهل كانت الحقيقة يوما ما عيبا؟
أخبروني من قبل أن الحقيقة مرة جدا لكنها تبقي حقيقة و تأبي أن تكون عيبا.
لازلت أحس بتوتر وارتباك، عرق غزير، أشعر بحرارة الموقف ومن ثم حرارة الجو من حولي.
وضعت مكبر الصوت جانبا، طلبت كوبا من الماء ..
 انتظرت قليلا، ارتشفت الماء، استجمعت بعضاً من قوتي ، نظرت للحضور، حاولت أن ابتسم ، ابتسمت، أطلت في ابتسامتي ؛ علني أستعيد بعض الهدوء ..
كان الهدوء و عم السكون أنحاء القاعة ، بدأت أتحدث :
- "هنـا الشارقة .. مدينة الشروق"
هلل الجمهور وصفق بحرارة ، و سمعت صفيرهم، ثم  أردفت أقول:
"السادة الحضور هنا أتذكر كلمات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ... لا يهم أن كنت أسدا أو غزالا ،  في كل صباح عليك أن تسرع الخطى و تسبق غيرك حتى تحقق النجاح ... أيضا لا يهم إن كنت فقيرا أو غنيا عليك أن تحدد هدفك و تمضى لتحققه بصبر وكفاح ... في الحقيقة كان هدفي الفوز من أجل المال .. ربما تتعجبون و تصيبكم الدهشة"
ثم صمت قليلا أتأمل الموقف .. كنت خائفا ..
ثم  عاودت الحديث بسرعة و بصوت أقوي وبتعبيرات أقوى كأني متهم أدافع عن نفسي و بصوت أعلى بدأت أصرخ:
 "فقير أنا .. نعم فقـــير أنــا .. تركت الطب منذ عامين .. باعت أمي ما تبقي من البيت الذي ورثته بعدما التهمته النار ثم ماتت ؛ لأني  فقير لا أملك  مالاً لأتعلم .. كنت أضع فوزي في تلك المسابقة في كفة و الطب في كفة أخرى ..  موازنة غير عادلة ، معادلة صعبة أتمني أن لا تُجربوها .. قاسية .. مؤلمة .. لكنها لم تكن مستحيلة ، والحمد لله أشكر الله عز وجل..
وأشكر الفقر فمن  الفقر كان الإبداع .. فتحية للفقر"
توقفت فجأة ، لم أحتمل الموقف ، لم أحتمل الصراحة و لم أحتمل الحقيقة، بسرعة تركت ما بيدي، غادرت المنصة، تركت الحضور ، تركت جائزتي ، مضيت بعيدا، وأنا أسمع صفيقا لم  أعهد مثله من قبل، ولمحت عيونا تبكي، لم أكن أدري لماذا يبكون..
 رأيت الدموع بأعينهم وودت لو أجففها لهم بأطراف ملابسي .. لكني لم أفعل.    
أحسست بالدموع في عيني، أدمعت ثم بكيت، أخفيت دموعي كعادتي ، مرة أخرى استجمعت قواي، لوحت للحضور ، ودعتهم وأنا أبكي، بسرعة أخرجت منديلا من جيبي ..
بسرعة مسحت دموعي من جديد ، وعلى موسيقى الفوز انطلقت بعيدا أصنع حياتي من جديد، وبسرعة ابتسمت من جديد.