السبت، 17 يناير 2009

حوار مع الناقد الكبير الأستاذ الدكتور صلاح فضل حفظه الله

هنا حوار جميل مع أحد الشخصيات الكبيرة فى عالم النقد الأدبي أنه الأستاذ الدكتور / صلاح فضل
منقول من جريدة الاسبوع الادبي العدد 1081 تاريخ 24/11/2007

الناقد الكبير صلاح فضل للأسبوع الأدبي ـــ غادة الأحمد
مقدمة:‏
د. صلاح فضل قامة متسامقة في عالم النقد الأدبي اليوم، ومعيناً ثراً لأكثر الباحثين في الوطن العربي والعالم ـ استطاع عبر جهده الفردي في تثقيف نفسه ثقافة موسوعية أن يثبت للمدّعين أن النقاد الحقيقيين قلة، وأن الناقد الحقيقي ليس ناقد الحكم المعياري بل إن الناقد يقوم بمهمة بالغة الأهمية، وهي إدراك قوانين الأعمال الأدبية والفنية، وأن الناقد لا ينسلخ عن عصره، بل يمتصه، ولا عن لغته بل يطوعها ليصد بها استراتيجيات الإبداع، عبر آليات ومفاتيح استنتجها من تراكم المعرفة بالفلسفة والفن والمذاهب النقدية والنظريات العلمية، ومن خلال اقتحامه اللازم والضروري لعلمي الجمال والنفس.‏
صلاح فضل يسبح في نهر من الجمال... يشرح به نقده العلمي عبر لغة مضمخة بعطر الشعر وخيال مجنح، وعقل علمي يميزه الذكاء الحاد، وتسعفه عينان كعيني الصقر، تلتقطان الجمال، وتفكان أسراره، وعبر ذاكرة حافظة، وفرّت له خبرة نصوصية، أمدته ذائقة عالية الحساسية، فبنى هرماً نقدياً، يتضمخ بالنظريات الغربية فمن الواقعية إلى البنائية إلى الأسلوبية إلى السيميائية إلى الشعرية... رحلة طويلة حاول أن يطوّع فيها المنتج النقدي الغربي، ويعطي درساً في كيفية استخدامه في فك مغاليق الدلالة الأدبية ومعرفة مواطن الجمال في النصوص الإبداعية العربية، والإمساك بشعرية النصوص من خلال شفراتها هذا ولم يكن بعيداً يوماً عن النقد القديم، بل كان على صلة دائمة به في كل نقوده، من خلال اللغة أولاً، والنظريات والآليات والمصطلحات ثانياً. ويبقى أن نقول: إن الحوار التالي مع صلاح فضل كشف عن مفكر عربي، وليس ناقداً فقط..‏
نعم...... صلاح فضل مفكر منشغل بالحالة العربية في جميع مستوياتها، ومعني بالهم العربي على جميع الصعد، وخاصة ذات الصلة منها بالإبداع. ولم يكن منظراً بهذا المجال فقط، بل كان مشخصاً للعلل واصفاً للدواء، وإن تعددت محاور اللقاء إلا أن الجامعة لها الأولية في محاولة اكتشاف جوانب أخرى ونقود أخرى غير التي سطرها بالكتب، ولعل المتعة في لقاء ناقد كبير كصلاح فضل ليست متعة معرفية فحسب، بل هي متعة أسلوبية ارتقى فيها إلى مصافي الكلام.‏
ـ مرحلة النمو وتأثير الأزهر ـ‏
* إذا افتعلنا عودة مقصودة إلى الوراء لمعرفة الطفل الذي كنت، تُرى ماذا تقول عن طفولتك، وماذا تتذكر من علامات بارزة؟!‏
** لا أعتقد أن في طفولتي ما يستحق الذكر، لكن مادامت قد أصبحت موضوعاً للسؤال، فهناك عدة أشياء يحلو لي دائماً أن أتذكرها: الشيء الأول، أنني لم أكن طفلاً مدللاً، بل طفلاً يتيماً، فقدت أبي وأنا في الرابعة من عمري، وحزَّ هذا في نفسي على قدر ما تحتمل نفسٌ غضة لطفل في الرابعة من عمره، أدركت معنى الفقد مبكراً؛ لكنني لم أسلّم به، وتوهمت أن هذا الفقد من الممكن تداركه، وكنت كلما قدم غريب على قريتي أتأمل سحنته ربما يكون هو أبي الغائب وقد عاد!‏
مازلت أذكر مثلاً أن أحد الموسيقيين الجوالين العازفين على الربابة قد أشجاني بعزفه في تلك الآونة، فطفت القرية وراءه لأنني تمثلت أن روح أبي قد تجسدت فيه، ومازلت أذكر أن ابن عمتي رأيته وهو يمسك بيد أبيه بحنان، فذهبت أصرخ لأمي: أريد أبي كي أمسك بيده أنا الآخر.‏
لم أكن أسلِّم بالأمر الواقع تسليماً نهائياً، وكنت أتوهم أن من الإمكان تصويبه مهما كان الثمن، ظلّت لذعة هذا الحزن الدفين للطفل اليتيم مصاحبة لي طول حياتي فيما أستقبل من أحداث، وفيما أنظر إلى الأشياء. والآن بأثر رجعي لا أتصور أنها كانت كلها سلبية، بل أكاد أرجع إليها أمراً إيجابياً بالغ الأهمية في تكويني، وهو الرغبة الحارقة في الجد والتفوق وتعويض فقد الأب، كان جدي هو الخيمة التي غمرتني بتحنانها تعويضاً عن أبي، لكنه جزاه الله خيراًـ اقترف أمراً مازال أثره يحزّ في نفسي، وهو أنني كنت أريد أن أسلك مسلك التعليم المدني لأصبح طبيباً، هكذا كان حلمي، غير أنه وهبني للدراسة الدينية في الأزهر حتى أعوّض أبي الذي لم يكن قد أتمّها عندما اختطفه الموت وهو في ريعان الشباب، بكيت كثيراً كي أعود إلى المدرسة المدنية، وأستأنف تعليمي العام العادي؛ لكن القرار كان حاسماً، يجب أن تذهب لتحفظ القرآن وتدخل الأزهر، لم أغفر أبداً هذا!‏
وفي الوقت الذي تمكنت فيه من الهروب من الأزهر بعد الحصول على ثانويته والدخول إلى جامعة القاهرة، صححت هذا المسار الذي أظن أنه كان خاطئاً، ومع ذلك أيضاً ما من شرٍّ لا يأتي بخير، هذه الدراسة الأزهرية، أفادتني فائدة مدهشة في تمكيني من اللغة العربية؛ في تشربي لروح بلاغتها عبر القرآن الكريم، الذي حفظته بعدد سنوات الدراسة، كنت كل عام أعيد حفظه لأن لدينا امتحاناً شفوياً فيه وأنا كل عام أعيد نسيانه بنفس السرعة التي أحفظه بها، لا أعرف ماذا ترسب في وجداني من كل هذه التجارب، لكنني مدرك أنني مدين فيما يمكن أن يكون قد توفر لي من قدرة على فهم النصوص العربية من تلك الصلة الحميمة العميقة التي ربطتني عبر القرآن الكريم بالحرف العربي تشرباً في نسغ دمي، وإدراكاً لبلاغته وتملياً لشعريته.‏
أجرؤ الآن على أن أقول: إن أعلى درجات الشعرية التي تحققت في اللغة العربية، هي التي تحققت في نماذج هذا القرآن الكريم، وهي التي مثلّت الخلفية المحورية التي أقيس عليها بعد ذلك مدركاً أو غير مدرك وهن الكلام وضعفه، أو قوته وجماله.‏
لابد أن دراسة العلوم الدينية قد أصابتني بملل قاتل؛ لأنَها كانت شديدة الرتابة، وكثيرة التكرار، مازلت أذكر أننا في السنة الأولى الابتدائية في الأزهر، درسنا كل أبواب النحو من أول الكلمة (اسم وفعل وحرف) إلى أبواب الاشتغال والتنازع، وكل قضايا النحو العربي، الذي كان يدهشني هو إذا كان قد درسنا كل قضايا النحو العربي في السنة الأولى الابتدائية ولم أفهم منها شيئاً بطبيعة الحال، لكنني استظهرتها، وحصلت على الدرجات العليا فيها، ماذا كان ينتظرنا لندرس في بقية السنوات، فوجئت أن النموذج الذي كان يتكرر هو أننا ندرس نفس المقرر بكتاب آخر وحواش أخرى وطريقة أخرى.‏
الأمر الذي جعلني أوقن منذ تلك اللحظة أن أكبر كارثة يقع فيها المشتغلون في الثقافة العربية، هي كارثة التكرار القاتل. القاتل للإبداع، والقاتل للمبادرة والقاتل للمفاجئة.‏
ـ الهروب من الأزهر والمكونات الثقافية ـ‏
كان نموذجاً من التعليم بالغ الضرر، حاولت بقدر الإمكان أن أتخفف من آثاره السيئة، أتيح لهذا التخفف بطريقة عشوائية بالغة البساطة، كان لي عم قد التحق بكلية الحقوق في جامعة القاهرة صحبني هذا العم إلى العاصمة، منتقلاً من المعهد الثانوي الذي كنت فيه، إلى معهد القاهرة الثانوي ووجدتها فرصة لكي أتضمخ بعطر العاصمة، وأتردد على منتدياتها ومحافلها الثقافية، وأشبع نهمي لسماع الشعر والأدباء والمحاضرات والندوات لكن شيئاً طريفاً قد وقع لي في تلك السنوات، غير كثيراً في بنية تفكيري تمثل هذا الشيء في عادة كسول جميلة من عمي، فقد كان لا يحب أن يقرأ مقرراته في كلية الحقوق القانونية بنفسه، وإنما يحب أن يسترخي على السرير أو على الكنبة الوثيرة ويسمعني أقرؤها عليه، خاصة فيما يبدو أنني كنت أجيد النطق الصحيح للكلام فلا يضيق به، أتاح لي هذا فرصة قراءة جميع مقررات كلية الحقوق عبر السنوات الأربع قراءة واعية مستوعبة من القانون الروماني إلى الدستوري إلى الجنائي إلى الاقتصادي إلى بالطبع الأحوال الشخصية إلى المدني إلى نظريات الاقتصاد إلى قانون العقوبات الذي كنت أحفظه، وكان عندما ينتهي الفصل الدراسي ويذهب إلى الامتحان ويأتي لي بورقة الأسئلة كنت أقول له من الأفضل لك أن تجيب على هذا السؤال لتقول كذا، وأن تجيب على ذلك السؤال لتقول كذا فيضحك قائلاً: لماذا لا تأتي لتمتحن بدلاً مني وتريحني من هذا العناء؟!!‏
لم أقدّر حينئذ عملية صياغة العقل والتفكير، بنمط مدني مضاد للنمط اللاهوتي الديني، الذي قامت به هذه الدراسة العفوية القانونية، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري حتى التاسعة عشرة، حقاً إنها كانت أجمل غسيل مخ يتعرض له صبي، يسمح له بأن يعيد تشكيل معارفه عن الحياة، وعن المجتمع وعن تطور القوانين والمجتمعات، وعمّا يمكن أن يضبط من أمور اقتصادية واجتماعية وفكرية وتاريخية حياة البشر في مسيرتهم المختلفة، أدركت متأخراً ليس في الآن ذاته، أن ذلك كان غسيل الروح والمخ بالنسبة لي الذي تحررت فيه إلى حدٍّ كبير من ميراثي الأول محتفظاً بحسب مما أخذته من ذائقة أدبية ولغوية وإدراكاً للحساسية الدينية في مجتمعاتنا الشرقية.‏
بالطبع، كانت المرحلة الثانية التي أتاحت لي استكمال هذا التيار ذاته، عندما تخرجت من جامعة القاهرة، وكنت أحمل إصراراً حقيقياً ومذهلاً على أنني لابد أن أستكمل دراستي في إحدى الجامعات الأوربية، كنت أحافظ طوال دراستي على موقع الأول في الصفوف الدراسية وهذه كانت ورطة مؤلمة وشاقة ومكلفة حقيقة أن تكون الأول دائماً وغير مسموح لك أن تكون الثاني أو أن تتقهقر مرة واحدة؛ لكن هذا أتاح لي الترشيحات في البعثات وغير ذلك أن أكون صاحب الحق الأول، وعندما سافرت إلى الخارج كانت بعثتي بداية إلى فرنسا لدراسة النقد الأدبي على وجه التحديد، لأن قصتي مع النقد طريفة جداً.‏
كان لدي تصميم منذ البداية على أن أكون ناقداً.‏
* ولماذا النقد بالذات؟!‏
** جربت كتابة أعمال إبداعية، جربت كتابة القصة، وجربت كتابة الشعر في فترة باكرة وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري، وكانت يقظة الوعي النقدي لدي أقوى بكثير من إمكاناتي في الإبداع في هذه الجوانب فحكمت بأن مستوى كتابتي لن يكون في الذروة في هذه الأشياء...‏
مارست أول حكم نقدي قاسٍ على نفسي، وعندما أتساءل هل هذا يصدق الفكرة الشائعة «بأن الناقد مبدع فاشل» فأعيد طرح السؤال بطريقة أخرى: ليت كل المبدعين الفاشلين كان لديهم وعي نقدي حاد وذكي وحقيقي، لكانوا أعفونا كثيراً من إبداعاتهم وأراحوا رؤوسنا من كتاباتهم الضعيفة. على العكس من ذلك أنا أتصور أن الوعي النقدي إذا زادت حدته لدى شاب ما، فلن يرضى بمستوى ما يكتبه، وبالتالي لن يرضى عما يكتبه زملاؤنا، سيكون متطلباً، سيكون مثالياً، سيكون أقرب لنشدان الكمال لو قلت لك حفظت الشوقيات عندما كنت أحفظ القرآن في العاشرة من عمري وطرحت على نفسي سؤالاً: هل يمكن أن أتفوق على شوقي في الشعر.‏
كتبت قصيدة وأنا في الحادية عشرة من عمري، بنظام زخرفي عجيب جداً، وهي أن عام 1949 كانت سنة زواج الملك فاروق بالملكة ناريمان. فكتبت قصيدة الشطر الأول يبدأ بحرف من اسم الملك فاروق والشطر الثاني يبدأ بحرف من اسم الملكة ناريمان ثم مزقتها، لأنها برأيي لا تستحق مع أنها منظومة بشكل جيد وموزونة إلى حدٍّ ما كنت لم أدخل السنة الأولى الابتدائية بعد.. لكنني لم أرضَ عن مستوى بلاغتها ومستوى شعريتها.‏
وبالتالي ما أريد أن أقوله: إن يقظة شيء من الوعي النقدي المبكر توّفر كثيراً من الورق وكثيراً من الجهد وكثيراً من إمكانية الكتابة الضعيفة أو المتوسطة، وعلى أية حال ترسب لدي شيء من اليقين ربما لأن دور النقاد في منتصف القرن الماضي في الوطن العربي، وفي مصر كان دوراً قائداً، أدركت هذا فيما بعد. نموذج طه حسين مثلاً النموذج الباهر بالنسبة لنا جميعاً، ومدرسته من المفكرين وغيره من أبناء الجيل التالي له من المبدعين، كان يضرب لي المثل على أن الفكر الأدبي هو الذي يقود الفكر السياسي وهو الذي يقود الفكر الاجتماعي والثقافي والوطني والقومي. بمعنى أن ما كان ينقد الأدب، كان يغير المجتمع والحياة، وكان عن طريق الإبداع يكشف مكامن الجمال والقوة والضعف أيضاً وأنه كان يقوم بدور طليعي، الفترة الليبرالية في الثقافة المصرية قبل ثورة (1952) واستيلاء العسكر على السلطة، كانت هي الفترة التي شغفت فيها بقراءة الأدب، وتمثلت أن تكون رسالة حياتي أن أكون ناقداً، وعندما أذكر أنني اجتزت امتحان الفصل الأول بكلية دار العلوم التي التحقت بها، تقدمت فتاة تريد أن تكون صحفية لتأخذ مني حديثاً لمجلة الحائط، التي كانت تشترك في إصدارها، بالمناسبة هذه الفتاة أصبحت زوجتي فيما بعد، لتسألني وقد كنت الأول على الدفعة، ماذا أريد أن أفعل فكانت إجابتي البديهية والبسيطة والأولية سأكون أستاذاً لكن في الدرجة الأولى سأكون ناقداً، لأن هذا ما كرست نفسي له.. مارست هذا على أساتذتي بشكل بالغ الحمق أحياناً، كنت أقرأ كل المراجع لأن لدي وعياً أكثر بكثير من مرحلتي التي يعودون إليها وأعدّ الدرس وأتحداهم في المحاضرات، هذا التحدي كان يواجه بردود فعل مختلفة، بعض الأساتذة كانوا يهددونني فكنت لا أرضخ للتهديد، وأحرجهم أمام الطلاب، وآخرون آثروا معي السلامة والصداقة، وبعضهم كانوا يرشوني بأن يدفع لي شيئاً أو يهديني كتاباً ويقول لي: «إنك لست بحاجة للمحاضرات واطمئن فإنك سوف تنجح حتى وإن لم تحضر المحاضرات»، لكن تبيّن في ذهني وهذه هي النقطة التي أريد أن أقف عندها: أن هؤلاء الأساتذة في جملتهم من أساتذة اللغة والأدب والنقد والفلسفة والتاريخ والعلوم اللغوية والأدبية ينقسمون إلى قسمين وكأنهم جنسان ينتميان إلى نوعين من البشر، مختلفان تماماً: قسم من الذين أتموا كل مراحل تعليمهم حتى في الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه وهذا قسم يتسم بقدر من الوثوقية وشبه البلاهة والجهل المطبق بماذا يحدث في العالم وهو يحفظ التراث لكنه لا يفهمه، ولا يعيه ولا يستطيع أن يكتشف شيئاً آخر، وقسم آخر يتكون من هؤلاء الأساتذة الذين تخرجوا من جامعات أوروبية ودرسوا في المعاهد العلمية العالمية واطلعوا على التطورات الفكرية والمنهجية والعلمية في العالم في العصر الحديث وهؤلاء «هم البشر» كما كان يقول شوقي: «أنتم الناس أيها الشعراء».‏
بمعنى أنني كنت أتأمل بلاهة ممثلي القسم الأول أنهم يجيدون رصف الكلمات دون أن يضيفوا أي معلومات حقيقية أو تحريك قضايا أساسية، بينما القلة من هؤلاء المتخرجين من الجامعات الغربية كانوا يمثلون لي نماذج الأساتذة الحقيقيين الذين أريد مهما كان الثمن، ومهما كانت العقبات أن أكون مثلهم وواحداً منهم.‏
أظن أن التعليم الديني أولاً، ثم التكوين الأدبي ثانياً ثم الأساس القانوني ثالثاً، ثم هذا التوق لشهوة إصلاح العالم عن طريق الأدب والفكر والثقافة، والاشتغال بالنقد على وجه الخصوص باعتباره هو الذي يمكن الإنسان أن يمارس سلطة على المبدعين، كل ذلك ممكن أن أعتبره من المكونات الأساسية في مرحلة طفولتي وصباي.‏
لكن سأختم هذا بحادثة طريفة جداً، تعرفت أنا في هذه المرحلة على صديق شاعر جاء إلى القاهرة من الاسكندرية وكان شديد الرهافة والرقة والذوبان شعرياً، ولجأ إلي في مسكني لأنه توسم عبر أصدقاء آخرين ممكن أن أساعده، وبالفعل وجدت فيه شاعراً جيداً وهو صديقي حتى الآن وأخذت أدفعه للاشتراك في الندوات والأمسيات الشعرية ليلقي قصائده، وكان دائماً أحد أساتذة الأدب في الكلية يعلق على هذه الندوات، وفي إحدى الندوات ألقى قصيدة، وكانت جميلة في تقديري وكانت من شعر التفعيلة لكنها لم ترق للأستاذ المعلق فأوسعه سخرية وتجريحاً ونقداً لاذعاً عنيفاً، كنت أحب جداً هذا الأستاذ لأنه كان أحد نماذجي التي أعتز بها، وكان قد درس في إسبانيا وحصل على الدكتوراه في الموشحات الأندلسية وهو شاعر أساساً، وأنا في حل أن أذكر اسمه لأنه الدكتور «أحمد هيكل» الذي عمل وزيراً للثقافة المصرية فيما بعد.‏
عدنا إلى البيت فإذا بصاحبي ينهار انهياراً كاملاً، ويجمع حاجياته ويقول لي دعني فقد قررت أن أعود إلى قريتي لأعمل في الزراعة ولا أريد أن أتم تعليمي الجامعي ولا أريد أن أكتب الشعر أو أكمل تعليمي، انهار صديقي انهياراً تاماً، وكنت قد قرأت منذ فترة ليست بالطويلة قصيدة جميلة جداً في نهاية الخمسينات للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي الشاعر والكاتب المسرحي بعنوان: «من أب مصري إلى الرئيس ترومان»، وكانت قصيدة سياسية، خطر لي أن أكتب مقالاً لأرسله إلى أستاذي الدكتور أحمد هيكل «من ناقد مبتدئ إلى أستاذه الناقد الكبير» ثم أخذت أتعقب في هذا المقال كل الأخطاء التي أخذها على صديقي، وأشرح له كيف أن فيها تكمن روعة شعره، وكيف أنه لم يخرج فيها على منطق الشعراء الشباب الباهرين والمبهرين حينئذ، مثل صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي من المصريين، ومثل بدر شاكر السياب الذي كنت أعشقه وأحفظ عن ظهر قلب «المعبد الغريق» و«أنشودة المطر» وغير ذلك من دواوينه فجاء المقال في عدة صفحات بالغ الحماس كأنه دفاع عن الشعر ودفاع عن صاحبي، ودفاع عن مستقبله وإنقاذ له من هذا الانهيار الذي كان يتهدد حياته كلها، ثم ختمت هذا المقال بعبارة لازلت أذكرها، قلت له: «بعد كل ذلك يا أستاذي الكبير، لم يبق إلا أحد أمرين: إما أن تكون مظلم الوجدان فلن تتعرف على كل هذا الجمال الشعري في القصيدة التي سخرت منها وجرحت صاحبها وإما أن تكون ظالماً ولأنني أريد أن أختار لك أيسر الأمرين أريد أن أقول: لقد ظلمت صاحبي».‏
ذهبت اليوم التالي مزهواً بإنجازي، إلى الأستاذ هيكل في حجرة الأساتذة وسلمته هذه الأوراق وخرجت، لم أعرف الكارثة التي أحدثتها حينئذ لأنه كان قد انهار بشكل أشد مما انهار صاحبي، وصرخ وترك الكلية وعاد إلى بيته وأعلن أنه سيترك التدريس في الكلية، ما دام أحد طلابه يجرؤ على انتقاده بهذه الطريقة.‏
وكان أحد الأساتذة الشباب تربطني به علاقة صداقة، أخبرني بما حدث، فقلت له: الأفضل للأستاذ أن يطلب إحالتي إلى مجلس تأديبي.. ولنحتكم إلى رأي أساتذة آخرين إذا كنت قد أخطأت فأنا مستعد أن أعتذر له، وإذا كنت قد مارست حقي في النقد والدفاع عن زميلي فلا مبرر لأن ينهار بهذا الشكل، لكنه امتنع عن التدريس يومين، ولم تفلح الوساطات الكثيرة بيني وبينه إلا بعد عدة أيام عندما قبل أن أذهب إلى منزله وأقبّله، وابتسم قائلاً: لقد بدأت بداية عنيفة كناقد، ما زلت أذكر هذا جيداً لأنها كانت أول ممارسة أستخدم فيها حسي النقدي للدفاع عن موهبة كادت تختنق لولا دفاعي عنها.‏
* يعاني النقد العربي من مشكلات عديدة، لعل في مقدمتها أولاً حالة العداء ما بين المبدع والناقد، وثانياً عدم قدرة الناقد على متابعة المنتج الإبداعي عربياً... ما قولك؟!‏
** لا أعتقد على الإطلاق أن توصيف العلاقة بين الناقد والمبدع يمكن أن تكون عدائية، لا يستحق كلمة ناقد من يتوهم أو يترك الفرصة لآخرين أن يتوهموا، أن العلاقة بينه وبين المبدعين يمكن أن تكون علاقة عداء مستحيل! هذا ليس نقداً، يمكن أن يكون تربصاً، ويمكن أن يكون أي شيء آخر، لأن النقد هو في خلاصة الأمر محاولة لفهم التعاطف العميق الحقيقي مع الأعمال الإبداعية، واستجلاء كل مظاهر الجمال والروعة فيها.‏
هل هذا يمكن أن يعدَّ عداءً لصاحبها؟! بالعكس، وكان هذا يحدث كثيراً معي ومع أصدقائي الذين ننقدهم يصرحون لنا بأننا وصلنا إلى ما لم يكونوا يتبينونه من أسرار إبداعهم. فالناقد الحقيقي والمبدع الحقيقي يشكلان منظومة متجانسة، تتجه إلى اكتشاف الضوء الحقيقي في الإبداع، مضاعفته، تحديد تقنياته، تسمية أساليبه. أما التوتر الذي يمكن أن يحدث بين ناقد ما ومبدع، فلا يحدث إلا إذا كان المبدع ضعيفاً أو هشاً أو كانت كتابته غير مستوفية للشروط، وقد أخذت على نفسي عهداً منذ عدة حوادث متفرقة ألا أتعرض بشكل مباشر للإبداع الذي لا يستوفي هذه الشروط، لأمر بسيط جداً وهو أن الناقد ليس معلماً، ولا يستطيع أن يمنح الموهبة لمن لا موهبة له. ولكنه يستطيع أن يتأمل ويحلل ويكتب، وللمبدع أن يفيد من كل ذلك أو أن يتركه وشأنه ويكتب على طريقته، لكن التجريح والتسفيه وكشف المثالب لا يمكن أن تكون له نتيجة إيجابية، لعل حوادث كثيرة منها حادثة صديقي التي أشرت إليها، قد ساعدت على بلورة توجهي إلى هذا المنظور لكن حادثة أخرى مررت بها بعد عدة سنوات، إذ زارني أحد كتاب القصة القصيرة من الشباب المصريين وأعطاني مجموعة وطلب إليَّ وفي بداية ممارستي النقدية أن أكتب عنها، فوعدته خيراً، لكنني فوجئت بأنه يهددني إن لم أكتب عنه فسينتحر، لم آخذ الأمر مأخذ الجد، وضحكت وإن كان لم يبادلني الضحك، لم أتوجس حينئذ أن هذه توترات تحدث للناس، ومرت أيام وبعد أسابيع إذ بي أفاجأ في صفحة الحوادث وكانت صفحة الأدب في الأخبار بخبر انتحاره بالفعل، أسقط في يدي ولم أعرف كيف أتصرف هل انتحر تنفيذاً لتهديده لي، لكن ماذا كنت أملك، القصص كانت ضعيفة ومعيبة ولا أستطيع أن أكتب عنها، ولو كتبت عنها بصراحة، ربما كنت قد أعطيته مبرراً حقيقياً للانتحار. لكنني خامرني إحساس حقيقي بالذنب ولم يخف هذا الإحساس لدي، إلا بعد أن تبينت بعد اتصالي بالمحرر الذي كان لي علاقة به، أن هذه كانت وسيلته في تهديد الكتاب والنقاد عادة، ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يحاول فيها الانتحار، بل كان مصاباً بشيء من الخلل العقلي، وأن انتحاره نتيجة لفترات قضاها في المستشفيات والمصحات العقلية، وليس بحال من الأحوال لتجاهلي لنقده. لكن على أية حال قرّ في نفسي شيء، ربما من تلك الرواسب الجميلة التي أكتشفها من أن مسح المخ الأول لم يكن مسحاً كاملاً، ومن أن النقد في رأيي شيء من الكتابة الخلاقة، وأنا مع من قال «فليقل خيراً أو ليصمت» فأصبحت مواجهتي للإبداع الرديء بالصمت، وأصبح حكم القيمة يتمثل بهذا الصمت.‏
* إذن يمثل اختيارك حكماً نقدياً ويمثل صمتك حكماً نقدياً؟‏
** للأسف أن الصمت ليس حكماً بالقيمة على ما تقرأ فحسب، لكنه حكمٌ بالضرورة لأنك لا تستطيع أن تقضي حياتك تقرأ وتكتب طول الوقت، ولا تستطيع مهما بلغت أن تكتب عن كل ما تقرأ، ولا تستطيع على الإطلاق أن تنصب من نفسك قاضياً لكل ما يقع في يدك، فالنقد في النهاية مثل الإبداع عملية اختيار، اختيار للمنظور، واختيار للمنهج، واختيار للعمل الإبداعي الذي يستفزك، يثيرك، يدعوك لأن تكتب عنه، لأنه يندرج لا في مشروع صاحبه وإنما في مشروعك.‏
في تقديري أن اختيار النقاد، وهذه نقطة أود أن أتريث عندها قليلاً، هو جزءٌ من أمانتهم مع رسالتهم، ومن أدائهم لمشروعهم، ومن تصورهم لما يريدون أن يفعلونه، وكثير من الكتابات، لا بد أن تعتمد على الناقد الأكبر، هو الذي يصفيها ويغربلها، وليس هذا الناقد الأكبر سوى الزمن والجمهور. أما الناقد الأصغر والأقل والأضعف شأناً وهو المشتغل بحرفة النقد فإنه يأخذ ما تبقى... ما استصفاه هذا الزمن، وما طرحه هذا الجمهور ليقول فيه رأيه. فيما بعد ذلك وأنا ما زالت مديناً للناقد الأكبر وهو الزمن والجمهور.‏
* تُتهم الجامعات العربية بأنها جامعات ماضوية، يُعنى النقد فيها بالنقد القديم وأنها تدير عنقها نحو الماضي لا نحو المستقبل تحت حجج وذرائع عديدة... ما نظرتك إلى هذا الأمر؟!‏
** هذه كلمة قليلة بالنسبة لجامعاتنا (يضحك!) وجامعاتنا تستحق أكثر من ذلك بكثير... أولاً: أنا حانق جداً على الجامعات العربية لعدة أسباب، لأنها حتى لا تستطيع أن تكون ماضوية، لأنني كي أعرف ماضيي جيداً، لا بد أن أعيد اكتشافه، وكي أعيد اكتشافه من الضروري أن يكون ذلك في ضوء معرفة جديدة. ولم يعطني هذا الماضي تلك المعرفة الجديدة، بمعنى أن من أعادوا اكتشاف الماضي حقيقة من القلائل من الأساتذة والنقاد الذين تعتز بهم ذاكرة الأدب العربي والجامعات العربية هم هؤلاء الذين عرفوا حركة العلم والفن والثقافة في العالم بأكمله وفي ضوئها استطاعوا أن يكتشفوا ويعيدوا اكتشاف تراثهم ويعيدون تقييمه ويلتقطون الجواهر فيه ويدفنون منه ما يستحق أن يدفن. وإذا عرفنا أن هذا الماضي لا بد أن يدفن منه ما يزيد على 90% وأن ما يصح أن يبقى منه لا يتجاوز 10% فقط أدركنا أن من يفعل ذلك؛ لا بد أن يمتلك عين الصقر، ولا بد أن يمتلك القدرة على التمييز، ولا بد أن يمتلك القدرة على الحيوية الحقيقية والبصيرة بأمرين ينقصان حياتنا الجامعية، الأمر الأول هو إدراك الواقع الإبداعي المعاصر... أتحدى واحداً من هؤلاء الأساتذة أن يعرف شيئاً أكثر مما يقع داخل نطاق حجرة الدراسة فيه فهو ملقن لطلابه ليس أكثر، وعلى أحسن تقدير يظل أسيراً لأطروحته التي قدمها للماجستير أو الدكتوراه، ويظل رهيناً بالفترة التي درسها وبالمعرفة المحدودة التي حصلها؛ ويعكف على تكرارها مثل البغبغاوات التي لا تمل من التكرار، هذا؛ حال أكثر من 90% من أساتذة جامعاتنا، الأمر الثاني أن هذه الجامعات حرمت حقيقة من التواصل الخلاّق الحقيقي مع تيارات العلم في الجامعات الأخرى؛ والعلم حركة دائبة منهمرة وجياشة، ومتدفقة، وما يحدث اليوم سرعان ما يتم نقده وتجاوزه غداً، أين نحن بكل هذا الكسل الخامل البشع الذي يخيم على عقولنا في الجامعات العربية والعلوم الإنسانية من متابعة حركة العلم في العالم. أقل ما نستحقه من وصف في جامعاتنا، وقد أصبحت معاهد مغلقة إقليمية متعصبة ورديئة في جملتها أننا نفينا من قائمة الشرف التي تضم الجامعات العالمية المتقدمة، لأننا بالفعل نستحق ذلك، أظن أن من أهم أسباب هذا النفي الذي نعانيه ما شاع في أوساطنا الثقافية والعلمية منذ الستينيات والسبعينيات من أنه لا ضرورة من الإطلاع على ثقافة الآخر ولا على حركة العلم لديه في العلوم الإنسانية وأنه يكفينا أن ندفع الطلاب لدراسة الطب والهندسة، وحتى الناجحون منهم لا يعودن إلينا، لأنهم لا يجدون بنية علمية ولا معرفية تتيح لهم متابعة أبحاثهم والتقدم بها، وأذكاهم هم الذين تختطفهم هذه الجامعات الغربية لأن مجتمعاتنا ليست حاضنة، وإنما هي طاردة للعلم وطاردة للإبداع وطاردة للثقافة، وليست جامعاتنا إلا صوراً مصغرة وكريهة من هذه المجتمعات المعادية للعلم والمعرفة. وهذا كلام أقوله لوزراء التعليم والثقافة وأنا مسؤول عنه.‏
* الإبداع والحرية صنوان متلازمان، وقد اعتبرت الحرية حالة مرضية في أزمان عديدة منها زمننا وأخذ على الإبداع الحرب مآخذ وصودرت بعض الأعمال ووضع كاتبوها تحت الملاحظة الدائمة فهل الحرية مناسبة للإبداع في مجتمع متخلف وهل تعتبر حالة صحية توجد المنتج الإبداعي؟!‏
** لا يمكن أن تكون الحرية ظاهرة مرضية... الحرية ظاهرة صحية، المرض هو القمع، المرض هو الكبت، المرض هو خنق قوى الإبداع، المرض الحقيقي الذي نعانيه هو أننا نقدس تقاليدنا العتيقة، ونعبد نواقصنا التي ينبغي أن نتخلص منها، ونعتز بنقاط الضعف فينا ولا نتجاوز، ولا نبحث عن أسباب القوة الحقيقية أكثر ما تفتقده الأمة العربية هو الحرية بكل مستوياتها، في مستواها الأول والحاكم وهو السياسي، عندما نصبح إحدى حارات قرية العالم المضيئة والتي دخلتها كهرباء الديمقراطية وتداول السلطة، نكون قد حققنا الخطوة الأولى من هذه الحرية السياسية، وهذا ما لم يشهده الوطن العربي حتى الآن!!! وليس الذنب ذنب حكامنا من الطغاة، والديكتاتوريين المتوالدين والمتكاثرين، ولكن ذنب شعوبنا في الدرجة الأولى التي تؤله هؤلاء الحكام، ولا تلقنهم درساً في وجوب أن يكتفوا بفترة حكم واحدة، ويتركوا لدولنا أن تنمو ديموقراطياً، وتأخذ مثل شعوب الأرض في آسيا وأفريقيا وبلاد الواق الواق... التي حققت هذا الشرط الإنساني الذي ما زلنا محرومين منه، وهذه الكارثة لا أعرف كيف سنخرج منه؟!!‏
الأمر الثاني، وهو جوهري، أن كثيراً ممن يطالبون بالحرية السياسية يدخل في صلب أيديولوجيتهم ممارسة أعتى نظم القمع الاجتماعي والاقتصادي، يريدون دولاً أيديولوجية دينية أو غيرها تقمع الإنسان وتكبت طاقاته وتقيد حريته، وتلجم لسانه، فقط كي يقفز واهم على السلطة؛ وفي تقديري أن الحرية منظومة متكاملة لا بد أن تتدرج من السياسة إلى الاجتماع إلى الاقتصاد إلى العقل وهذه الحرية الثقافية التي تعتبر البنية الأساسية لبقية الحريات... عندما تتحرر المرأة في عالمنا العربي تحرراً كاملاً بمثل ما حدث في كل أنحاء الأرض، لسنا قردة حتى يمكن أن نتمثل أنفسنا مع هذه الأعجوبة المضحكة التي نرددها من أن لنا خصوصية، لا أعرف هذه الخصوصية!‏
هل التخلف جزء من الشخصية العربية التي ندافع عنها؟! من يرفع مثل هذه الشعارات؟!. إنها تدافع عن مصالحه، النظم المستبدة تدافع عن مصالحها بحجة أن فيها خصوصية لنا. أنا لا يمكن أن أتصور أن الهوية والشخصية العربية من خصائصها التخلف، وإلا لأغلق هذا أمامنا باب الأمل في التطور في المستقبل مثلما تطور بني البشر في كل أنحاء الأرض ممن يملكون ثقافات أعرق أو أحدث منا على هذه البسيطة، وبالتالي وفي تقديري أن السبب الأساسي في تخلفنا هو فقدان الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في الوقت الذي سنؤمن فيه بأن فقدان هذه الحرية هو الذي أسقط الاتحاد السوفييتي، الاتحاد السوفييتي كان كل الناس فيه يعملون وكل الناس يتقاضون رواتباً، ولكل مسكنه وملبسه وعمله وأطلق أقماراً صناعية، لكنه انهار! وليس هناك من أي تعليل لهذا الانهيار سوى أنه افتقد الشرط الأساسي للإنسان، وهي أن «الحرية أهم من الخبز» وأهم من العمل وأهم من المسكن وأهم من كل شيء آخر، وأهم من القوى النووية كلها، وبالتالي: لا بد أن نعدل استراتيجيتنا ومنظورنا للأشياء لنمتلك القناعة الكاملة بأنه لا أمل لنا في المستقبل سوى بتحقيق هذه الحرية في مستوياتها المختلفة.‏
* يُتهم النقاد العرب المعاصرون بالشللية وبالجغرافية تُرى هل تصح هذه التهمة عندكم؟!‏
** أولاً دعيني أميز في هذه الكتلة التي تطلقين عليها النقاد العرب المعاصرين بين مستويات متعددة لأننا لا يمكن أن نعمم هكذا. هناك أساتذة جامعيون محدودو الأفق ومتواضعون في معارفهم وكل ميزتهم أنهم مدرسون جيدون أو أقل جودة لمواد الأدب وتاريخه وغير ذلك، أستبعدهم من مصطلح النقد لأنه من بين (100) أستاذ قد لا نحصل على ناقد حقيقي هذه فئة.‏
الفئة الثانية هي المشتغلون بالكتابة الأدبية الذين يملؤون أنهار الصحف بالتعليقات الانطباعية والمرتجلة عن الأعمال الإبداعية؛ مثل هؤلاء ليسوا نقاداً محترفين بطبيعة الحال؛ ولكنهم صحفيون يملؤون فراغاً فيكتبون تعليقات؛ ولأن حصيلتهم المعرفية وضميرهم المهني ووعيهم النقدي لا يسمح لهم بامتلاك مقومات حقيقية للحكم، فسوف يصدرون عن هواهم وعن مزاجهم وعن علاقاتهم، سوف يسترضون أصدقاءهم بالكتابات التي ينشرونها، وسوف يستفزون من يكرهونهم بالتعليقات التي يكتبونها؛ من الظلم أن أعتبر ما يكتب في الصحف والمجلات بأنه نقد لأنها تعليقات عادية من هواة يملؤون أنهار الصحف لكنهم ليسوا نقاداً.‏
* إذن أين هم النقاد؟!‏
** دائماً كانوا قلة ومحدودين جداً، ولا يكفون على الإطلاق بتغطية النقود المطلوبة منهم ولا يسدون فراغاً، والمعول كما قلت سابقاً على الناقد الأعظم وهو الزمن والجمهور.‏
أما أن من هؤلاء النقاد يتصل بالشللية، بالطبع، لأنهم لا يملكون ضمير القضاة ولا وعيهم، أما أنهم مغرضون وأيديولوجيون كلهم تقريباً بقيت قلة قليلة جداً هي الطليعة المطلوب منها والمنوط منها تعليم غيرها والمنوط منها ضرب المثل والمنوط بها حفظ كرامة النقد وتنمية قدراته وإمكاناته، ويكفي في أي لغة وليس هذا قاصراً على اللغة العربية أن يكون من هؤلاء عدة من أفراد يمثلون عدة مجموعات اتجاهات هؤلاء يتعلم منهم الأجيال التالية لهم، وهؤلاء يبثون الثقة والأمل في المستقبل الحقيقي للإبداع والنقد.‏