الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

بوح شخصي .. افعل به ما شئت .. نوفمبر 2014



صباح يوم 11 نوفمبر يوم العرض الأول لي علي النيابة بعد الحبس 15 يوما، الجميع نائمون، ما يقرب من خمسون فرد نائمون و أربعة فقط مستيقظون و أنا واحد منهم لكل منا سبب للاستيقاظ أحدهم ينتظر صلاة الشروق و اثنين لا يجدون مكانا للنوم، ينتظرون استيقاظ البعض لكي يناموا مكانهم – نحن في عنبر يجمع حوالي خمسون فردا مساحته لا تتعدي غرفتين – أما أنا فمثل طالب الجامعه عنده في الصباح امتحان آخر العام و هو في الفرقة الأولي من الجامعه، من الخوف أترقب الوقت و أعد نفسي لأمتحان اليوم ربما يُقرج عني – هذا ما أحلم به – و ربما يُجدد لي 15 يوما آخرين و ربما أُحال إلي المحاكمه.

منذ أن وصلت إلي هنا هيأت نفسي أنني ربما لا أخرج قبل عام أو اثنين ليس لأني متهم بشيء فعلته و لكن لأن النظام يريد ذلك هنا السجان و الجنائيين يخبرونا كل يوم أن كل السياسين سوف يخرجون قريبا ربما بعد انتهاء انتخابات البرلمان أو بعد ذلك بقليل أو ربما عندما تستقر الأوضاع في البلاد.

أخذت بالأسباب و توكلت علي الله سبحانه و تعالي و تواصلت مع من استطعت لكي أجهز بعض الأدلة التي تؤيد موقفي في التحقيق ربما لم أُوفق مثلما كنت أتمني و لكن ما وصلت له أفضل من لا شيء.

متفائل بمجريات الأمور اليوم و لدي شعور أنني سوف أخرج من هنا بلا رجعة و لذلك أكتب ربما تكون تلك السطور نهاية رحلة لي في مكان جديد هو الأصعب في مراحل حياتي و ربما هو الأصعب في حياة كل من هنا سواء الجنائيين أو السياسيين.

هنا كل منا يحاول أن يتأقلم علي الوضع، الجنائيين يسارعون إلي البرشام و الحشيش و المخدرات و السياسين بقراءة الجرائد اليومية و التحليل السياسي و إسقاط الجانب الديني علي المشهد و البُشري أن الفرج قريب و ليس السبب في ذلك الحراك السياسي و لكن مشيئة الله سبحانه و تعالي، لا أعترض علي رأيهم و لكني أري أنهم لم يتحركوا في الأسباب حتي تأتي مشيئة الله بعد.

هنا كل شيء بثمن إذا أردت أن تري أهلك فالزيارة بثمن ، إذا أردت أن تقابل أحد المسجونين في عنبرا مجاورا .. اللقاء بثمن، أن تتناول الشاء بثمن، كل شيء له ثمن و هذا ليس قانوني أو رسمي، إنها أعراف و تقاليد السجن مثل أعراف و تقاليد الجامعة لا يمكن أن تعرفها مسبقا فقط عندما تبدأ فأنها ستُطبق عليك مباشرة دون سابق أو إنذار .

قضيت 15 يوما تقريبا منذ الاربعاء 29 من اكتوبر و حتي اليوم، و هنا قابلت إناس لم أكن أتخيل أني ربما أتآلف معهم بهذه السرعة و لا يمكن أن أصف كرمهم أو إحسانهم سواء مع الجنائين أو مع مثلهم من السياسين، أحدهم أكرمني منذ أن دخلت حتي بالأمس حين طلب مني ملابسي لكي تُغسل من أجلي و تعود لي مرة أخري و ما قبلها لا يمكن حصرها .. أكرمكم الله.

هنا الاستحمام يكون بالماء البارد طول الوقت و لدينا غرفتين متجاورتين مساحتهما أربع أمتار مربعه نطلق عليم دورة 1 و دورة 2 ، الأولي للوضوء و قضاء الحاجة و الثانية للاستحمام.

هنا لا يوجد برد حتي الآن، حتي هذه الساعة البعض لازال يرتدي الحمالات الداخلية و لكن يوجد سحاب كثيف بسبب الدخان يكثر من بداية ساعات الليل و يقل تماما أثناء الصباح الباكر بسبب كثرة الأعداد لا أظن أننا سوف نشعر بالبرد إذا حل سوي أثناء ساعات ما بعد الفجر.

لا أحد هنا يري الشمس أو القمر أو السماء أو المطر إن حل، لا يوجد أي وقت للتريض سوي في حالات التفتيش و فيها يُطلب منا نقل الفرش و الشنط خارج العنبر لنقف حوالي ربع الساعه يتم تفتيشنا و من ثم ندخل مرة ثانيه و في كل مرة ندعوا الله ألا تتكرر حتي لا نظل نعيد ترتيب العنبر لأكثر من خمس ساعات و التفتيش يكون للبحث عن الممنوعات التي تم إدخالها بمعرفه السجان حتي يتقاضي ما به النصيب.

لا أكتب كل هذا لأجل أن يعرف الآخرون و يحتسبوا عند الله و من ثم يدعوا الله أن يفرج همنا؛ كيف سوف يفرج همنا و نحن لم نأخذ بالأسباب و اكتفينا بالدعاء؟ أنا أكتب لكي أبوح بما بداخلي، أكتب لكي يحرص الآخرون علي المجيء إلي هنا.

كنت أقرأ ما يكتبه علاء عبد الفتاح عن السجن و السجان، أحيانا كنت أعتقد أنه مبالغ به هذا الحديث حتي يفرج عنه في أسرع وقت و يشجع الآخرين علي التضامن معه، لا أقصد الإساءة لأحد و لكني لم أتصور أن الحال مزري إلي هذا الحال و بما الحال في سجون القاهرة و زنازين الحجز و سجون الترحيلات أفضل حالا من الأقاليم، سامحني فلا أحد يعرف ما تحدثه النار عندما تمسك في الجسم إلا من أُصيب بذلك.

هنا تموت الأحلام، هنا يقتلون التفاؤل، هنا نقرأ كتاب لا تحزن للشيخ العريفي و نحن تعساء و بؤساء و بعدها نذهب للنوم حتي لا تتعب عقولنا في التفكير و التحليل و احتمال الاحتمالات.

من قال لي أن الحال في البلد ربما تجعل البعض يُلحد هو علي صواب بالرغم أني كنت أختلف معه حينها و بالرغم أني مؤمن أنه إن انقطعت كل السبل فإن سبيل الله لا ينقطع و لكن هؤلاء لن يلحدون بسبب أنقطاع أسبابهم بالله و لكنهم و جدوا كل ما كانوا يحلمون به انتهي و بما أصبح سبب في قتلهم أحياء.
لست سياسيا لكي أقول ما الحل و لست في منصب لكي أقدم مبادره أو أتحرك أنا طالب جامعي ما زلت أفكر و لكني لا أري مستقبل بالرغم من أني أكثر المتفائلين وهكذا يُخبرني الآخرون.

قل لي سببا واحدا يجعلك تخطوا خطوة نحو شيء لهذا الوطن بعدما سجنوك لأنك تطالب بأن تحيا حياة كريمة، لا أنسي أننا كنا نردد : و ما نيل المطالب بالتمني ....
و لكن الطريق أصبح كله مصائب إذا كانت المصائب سوف تتوقف عندي فليس لدي مانع و لكن ما علاقة أهلي بها.

منذ سجنت لم أري أحدا من أهلي، أنا من المنوفيه و سجنت بالسويس و المسافة لا تقل عن 300 كم و يوم زيارتي هو الاثنين و الزيارة لا تزيد عن خمس دقائق من شباك له سلك من الجانبين.

كنت أعتقد أنه عندما نسجن أن نقرأ و نطالع و نذاكر و نفكر و نتعلم و نتحاور و نتناقش و سوف يكون لدينا متسعا من الوقت لكل شيء، لقد هربنا من هموم الحياة و ضوضاء الناس و لكن الحقيقة أن الوقت لا يكفي فلابد أن ننام في أوقات محددة و نهتم بالنظافة الشخصية حتي لا نصاب بالجرب و الأمراض و هذا وحده يحتاج ثلاث ساعات يوميا حتي تحجز و تقف في الطابور و تنتهي و عليك أن تصلي و عليك أن تبحث عن ماذا سوف تأكل ، التعين هنا عبارة عن رغيف ربما يكون سحلي ( سحلي عو الرغيف الغير مرغوب فيه في المخابز) و علبة جبن صغيرة جدا لا تتجاوز 100 جرام و برتقالة و علبة مربي لا تتجاوز 50 جرام كل هذا لثلاث وجبات فطار و غذاء و عشاء.
و بعد كل ذلك يجب أن تحمي نفسك باقي الوقت عفرة دخان الشيش و البانجو و السجائر ..

الحياة حقا هنا صعبة و مؤلمة .. أمنيتي اليوم أن أخرج من هنا بسلام و إن استطعت أن أخرج من هذه البلد بسلام أيضا.        

الأربعاء، 18 يونيو 2014

العبد الحميد ..




استشهد عبد الحميد .. الرفيق الذي لازمني لأكثر من عشر سنوات .. رصاصة غادرة استقرت بصدره و ارتقت روحه الطاهرة البريئة إلي خالقها .. تشكوا إليه ظلما و بطشا و فسادا..
يا الله .. يا رب المستضعفين المستغفرين نحن لا نشكو إليك ظلما و فسادا و حسب و لكننا يا رب نطمع في كرمك و حنانك و رحمتك .. خذنا إليك .. نعلم جميعا أن عندك ستكون الحياة الأبدية السرمدية ..
هناك في الميدان الشهير ميدان رمسيس كانت روحة ترنوا للشهادة و قد نالها .. كان يقف كما يقف الرجال الأبطال الشجعان و يهتف ضد ظلم و فساد .. لا يملك سوي صوته ليقول ان الظلم ظلمات و ان الحق أحق ان نكون معه نناضل معه و نموت من أجله..
 كان الوقت متأخرا عندما حملناه علي أعناقنا و كلنا فخر .. كنا فخورين اننا نحمل بطلا لا يعنيه من الدنيا أي ما فيها و لا يهتم كثير أهي انفاسه الأخيرة أم قبل الأخيرة المهم عنده أن كل نفس من أنفاسه فداء للحق .. و حينها لا يبلالي و لا يخاف .. إنه الرقي في أرقي ملامحه لذلك نقول أن الشهيد له أرقي ما في الدنيا و له أرقي ما في الأخرة .. إنها فلسفه الرقي فوق كل تفاهات الحياة الفانيه ..
استشهد عبد الحميد و ولد بعدها بأقل من عام عبد الحميد جديد .. أنه ولد الشهيد عبد الحميد سموه بعبد الحميد تيمنا بالشهيد ..
لا يرحل الأبطال دون بطوله .. و من خلفهم يُولد أبطال آخرون .. و هذا ما يصور لنا أن الحياة لا تنتهي بموت أحد الأبطال و لكن تبدأ له بالتوازي حياة أخري تنشأ في كل ما تركه من قول أو فعل .. و حينها يكون للبطل بطولات أخري فيما تركه ..



    

الجمعة، 15 نوفمبر 2013

آف دومافيا آرجنتاريا ... في ذكري مذبحة رابعة العدوية .. 14 - 8 - 2013




 آف دومافيا آرجنتاريا ... في ذكري مذبحة رابعة العدوية .. 






أيها الصبح هل تلقيت تحية من لا بد أن يلقي حتفه ؟
تحية إنسان عليه أن يموت الآن ؟!

آف دومافيا آرجنتاريا ..
أديو ، بارتيا آرجنتي ..
Avo domavia argentaria
Audio, partria argeti !
الصلاة و السلام و التحية علي أرض أجدادي الفضية ..
عليك السلام و التحية يا أرض أجدادي الفضية ..
عسي أن تظلي مصونة في الأبدية ..
محمية عبر الخلود .. يا أرض أجدادي الفضية ..!!
الأنشودة السابقة كنا نرددها كثيرا .. بلا سبب في الكتاب لما كنا صغارا، و حتي كبرنا، أجدادنا يعلمونا إياها، و لا نعرف السبب يعتقدون أن سربرينيتسا ستزول .. الوضع لن يستقر .. علي الرغم من هدوئه الظاهر.
اسمي " أيرين " إبنة هذا المكان .. أوه ، أنتم لا تعرفون هذا المكان .. هنا سربرينيتسا .. المدينة الأمنة .. هنا كانت آرغتاريا الفضية التي اختفت بلا سبب معلوم .. و هنا أيضا كانت مدينة دومافيا الذهبية التي لم تعد لها أي وجود ، و هنا كانت سربرينيتسا القروسطية ، التي دمرت وهنا أيضا كانت سربرينيتسا .. يا رب يا رحيم كن معنا .. لا تدعنا نشاهد تدمير بلدتنا الفاتنة، ستخلد هذه المدينة .. نعم أعلم أنها ستخلد ، هذا الجمال و هذه الروعة هي خالدة بلا شك !
أذكر السلطان محمد الفاتح أكاد آراه رأي العين، و قد قدم ليفتح مدينتنا، رأى رؤياه الغريبة، رأي في منامه الخلفاء الراشدين الأربع و لكنه لم يري " عمر بن الخطاب رضى الله عنه " و فسرها له شيخه درويش:
" يا جناب السلطان .. لقد تقوض منامك الذي رأيته بشأن هذه الأرض .. الآن أنهارت هذه الرؤيا الجميلة و تداعت .. فسيدنا عمر رضى الله عنه فوق كل مزاياه التي جعلت منه خليفة والتي ستجعل منه مثالا و قدوة للمؤمنين إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .. كان قبل كل شيء رجلا منصفا و عادلا، و نظرا لأنك رأيت سيدنا أبو بكر فإن البوسنة ستصبح أرضا غنية، و لأنك رأيت في منامك سيدنا عثمان فإن البوسنة ستصبح أرضا تقيه يسكنها المؤمنون الأتقياء، و لأنك رأيت فى منامك سيدنا علي فإن البوسنة ستصبح أرضا للمجاهدين، لكنك لم تري – يا مولاي – سيدنا عمر و لهذا فإن هذه الأرض لن تعرف العدل يوما في تاريخها الطويل، لم يكن فيها أي نوع من العدالة و لن يكون .. إن هذه الأرض محكوم عليها بالظلم يا مولاي "
لما قص شيخي "عبد الله "  علي الرؤيا انقبض قلبي و جزعت .. سألته وقتها:
-         يا شيخي أرضنا عادلة .. عادلة جدا.
و أمسكت يده و أخرجت بها خارج الكتاب، و قلت:
- انظر يا شيخي.
كانت القرية تتلألأ تحت أضواء الشمس التي كانت للتو تشرق، كانت تلمع و كأنها سفينة تسبح في أمواج ذهبية .. كانت سربرينيتسا رائعة .. حتي اسمها فخيم موسيقي مثل منظرها .. أولئك الإنس الذين يسيرون علي أرضها للتو أنهوا صلواتهم الفجرية ، كانوا كأنهم ينزلقون على الأرض بخفة .. حتي الصرب بيننا يعيشون كأنهم  مسلمون ، معلمتي في الصف .. هي صربية تحبني وأبناؤها أصدقائي .. أين الظلم يا شيخي؟
هذه أرض خلا منها العدل يا شيخي !
عجبا لأمرك!
" أيها الناس .. هذه أرض آمنه .. آمنة جدا
أيها الناس .. هذه أرض عادلة .. هنا حيث العدل ..
أيها الناس .. نحن لا نظلم أحدا .. أبدا ..
أيها الناس سربرينيتسا ... آمنة .."
كتبت هذه الكلمات قبل أيام قليلة .. تحت اسمي أيرين .. و كررتها .. لم أعرف ما الذي سيحدث بعد أيام .. كنت طفلة !!
بعد أيام أخبرني أبي أننا حصلنا علي الاستقلال .. لم أفهم معني الكلمة تماما، و لكن فهمت أننا نحن المسلمون سيكون لنا دولة مثل باقي الدول ذات الديانات المختلفة من حولنا، أعتقد أنه شيء جيد أن يكون لنا علم ، وأهزوجة ترددها روحك كل يوم، هو أمر ممتع بالتأكيد.
أخبرني أبي أننا كجزيرة وسط بحر، نحن دولة مستقرة وليدة من حولنا أناس " مختلفون " لم أفهم المشكلة تماما فنحن هنا في سربرينيتسا و من حولنا مختلفون ؛ ما الجديد إذن ؟
علمت أن الأمم المتحدة اعترفت بنا و أننا لم نعد ننتمي لما يسمي يوغسلافيا بل أصبحنا الدولة الرابعة .. كانت هناك سلوفينيا ، كرواتيا ، مقدونيا ثم نحن " جمهورية البوسنة و الهرسك " شعرت بالفخر ..
أخبرني أبي أن هناك مشكلة واحدة أننا دولة محظور عليها الأسلحة، لم أشعر بالضيق لكنني شعرت أن أبي يبالغ في ضيقه من هذه القضية.
نحن لم نعتدي يوما علي أحد و بالتالي لن يعتدي علينا أحد.
" جمهورية البوسنة و الهرسك .. اذكرها أيها التاريخ .. فهي بالتأكيد ستدخل التاريخ و لن تخرج"
رددتها عدة مرات ، احتضنت لعبتي القطنية، و استسلمت للنوم، أحلم بالبوسنة و الهرسك..
نحن الآن في العام 1992 بدأ الهجوم بلا مقدمات علي جمهوريتي " البوسنة والهرسك " عرفت أن هناك جيشين يعتديان علينا .. الجبل الأسود و جيش آخر هو الجيش الصربي ..
نحن ما زلنا دولة " محظور عليها امتلاك السلاح "
مرت الأيام علينا بصعوبة ، ازدحم المنزل ، و اكتملت المأساه ، لما بدأت القذائف تهوي فوق رؤوس القرى المجاورة، بدأ الطعام ينفد، و لا إمكانية للخروج، خرج الرجال للدفاع، و لم يعد أحد، تسائلت بيني و بين نفسي عن جدوي الدفاع بلا سلاح، مجرد خردة، أصلا لم نتخيل أننا في يوم من الأيام سنضطر للدفاع عن بلدنا، كانت دائما الأمور هادئة، مسلمون و صرب، الجميع بجوار الجميع ، منازلنا متلاصقة جدا .. الود متصل.
كان المهاجمون هم عصابات التشيتنيك  جيوش صربية و هم يكرهوننا .. فقط !
لماذا يكرهنا التشيتنيك  ؟؟
لا أعرف و لم أستطع أن أجب، هناك شئ خاطئ ، هم يحبوننا .. نعم يحبوننا ..
بدأت المساعدات تأتي إلينا من " زيبا " القرية الشمالية ، لكنها كانت تأتي بثمن مرتفع جدا، تفشي المرض و الألم بيننا، مرضت أمي كثيرا، جلست بجوارها، و أبي غادرنا للحرب، غادر اللآجئون بعد أن نفد ما لدينا من طعام، قرروا الهجرة نحو الجنوب بعيدا عن الحرب قدر ما يستطيعون ..
فى عام 1993 بدأ الاعتداء الصربي .. لم أفهم ما الذي يحدث، فقط عرفت أن علينا الاختباء في أوقات محددة، علينا أن نأكل أقل، نحاول أن نخزن الأكل، بعد قليل تحول بيتنا إلي ما يشبه الملجأ، توافد العديد من اللآجئين إليه، كانت أمي تمنعني من الجلوس إليهم، لكن كانت الحكايات تتناثر هنا و هناك ، يتحدثون عن التشيتنيك  .. عصابات مسلحة تدخل للقرية أو المدينة فلا تترك أخضرا و لا يابسا.. لا عفوا .. كانت تترك برك الدماء من خلفها و القتلي بالأكوام !!
----------
" أنا إيرين الجميلة لن يصيبني سوء ..
أنا إيرين الجميلة لن يصيبني سوء ..
سيعود أبي يوما ما ..
ستشفي أمي قريبا جدا "
و ستعود سربرينيتسا يوما كما كانت و أجمل  ...
لا أعرف ما اليوم .. أمي لا تستطيع الكلام .. و أبي غادرنا ، و اختلطت الأيام ، لا كتاب لتحفيظ القرآن، شيخي اختفي، قال البعض أنه استشهد و قال آخرون أنه ما زال يقود المجاهدين.
----------
يوم لا أعرفه .. استيقظت مع صوت الديك فلم يعد هناك صلاة فجر؛ المساجد جميعها تهدمت، هذه المأساة طالت، أعرف أنها طالت جدا كما طلت أنا، أصبحت أكثر قدرة على تناول الأشياء من الرف الأعلى، أجيد فتح الأبواب و  غسيل الأكواب و استقبال الضيوف؛ أقصد اللآجئين وضيافتهم و تحمل شقاوة الأطفال .. كنت بهذا الطول ..
----------
مرض أمي يزداد .. و بين الفتور و الاشتعال كان القتال الذي أهلكنا ..
سربرينيتسا الذهبية ، التي كنت في يوم  أسير عليها و كأني بلقيس تسير علي عرش من الماء .. التي كنت أمضي فوق عشبها بخفة الطير خوفا من كل قشة فيها أن تنكسر تحت قدمي، مائها المنسكب و من خلفه الشمس بمشهد أعجز عن وصفه ..
الآن ينكسر من تحتي القش بأصوات قاسية و مؤلمة .. قديما لم يكن يتكسر .. هذا القش الذي كان يوما أخضر ا ناعما .. الآن يجرحني و ربما يحرقني و يحرق قدمي فقد كان مشتعلا ...
لم تعد سربرينيتسا كما كانت أبدا ، تحولت ، اختفت ، اندثرت .. سربرينيتسا الحزينة تبكي ..
اليوم كان مرعبا ، ارتجف قلبي .. آآه
آه يا قلبي، من يحتمل أن يعرف أن التشيتنيك يقفون علي حدود بلدته، و الرجال في الخطوط الأمامية لا يحملون إلا أقل الأسلحة، نعم هناك البطولات العتيدة إلا أن ذلك لا يكفي .. ما إن يدخل التشيتنيك حتي ينقضي علينا نحن .. أكثر من 10 آلاف شخص سيقتلون هنا بلا رحمة ..
هنا في سربرينيتسا التي كانت ذهبية .. قريبا ستصبح سربرينيتسا الدموية ..
-----------
العالم مسرح وما يدور مسرحية رديئة، العالم أصم و أعمي .. لا يري إن أراد ، و يري جيدا إن أراد .. قوات الحماية الدولية تنسحب من أماكنها، و تتجمع في معسكرها الخاص .. هذه القوات كان المفترض أن تحمينا من التشيتنيك و لكن هذا لم يحدث ..
الأمم المتحدة لم و لن تحمينا أبدا، هي في الأصل تمنعنا من الدفاع عن أنفسنا ..
-----------
اليوم كان دمويا جدا ..
أمطرت السماء مطرا؛ أمطرت حمما، و تحولت الأرض حماما حقيقيا من الدماء ..
إنهارت الأرض من تحتنا، و تفتت المقاومة، البيوت من فوق رؤسنا تنهار و الأرض من تحت أقدامنا تتزلزل !
التل الأخضر الكبير الذي ستحول إلي أسود قريبا، اليوم كانت القذائف تتهاوي من عليه و من عيني كانت الدموع تنهمر و تنهار و تحتضر ..
يا رب .. ما عاد يجدي البكاء ..؟
يا رب .. هل سمع أحد بنا ممن أخبرني أبي أنهم مسلمون مثلنا تماما، بالتأكيد لم يسمعوا و إلا أنقذونا، بالتأكيد لن يحتملوا أن يحدث لنا هذا ..
قتل من هم في أعلي التل جميعا، كل من سولت نفسه أن يعيش هناك أو يكون نازحا هناك، اليوم سربرينيتسا هي قبر كبير مفتوح، أو وادي من حوله الجبال و التلال، قبر حقيقي ينتظر من يأتي ليقوم بالمهمة الأخيرة .. إغلاق القبر !
بين الأشجار .. تناثر الناس .. بين الجوع و المرض و التعب، و هنا كان الجوع نوعان؛ جوع طبيعي و جوع معنوي، جوع الطعام و جوع الحياة، و أيضا مرضان؛ مرض نفسي، جن الناس من هول ما رأوه، و مرض حقيقي .. كان الجويتر ( مرض الغدة الدرقية ) هو المرض الأساسي الذي ساد بين الجميع، في سربرينيتسا لا ملح، الجميع يعرف اليود شيء نادر و لأن التشيتنيك يعرفون  ذلك منعوا الملح، فمرض الناس، و جنوا .. جنوا بمعني الكلمة ..
الأم المسكينة .. يموت رضيعها جوعا و عطشا و بين يديها تمسكه لأيام، حتي ينتزعه من في عقله بيقية باقية من عقل، يجذبونه غضا و قوة ليدفنوه تحت التراب ..
و بعد مضي الأيام ، أصبح الدفن رفاهية لا يقدر عليها أحد، كانوا يتركون القتلي علي جوانب الطرقات .. و الله يتولاهم ..
-----------
بين ا لأشجار تناثر الناس (عفوا هذا ليس نصاً مكرراً ) هذه المرة تناثروا قتلي و جرحي و من خلفهم تناثر جنود العصابات يكملون على كل جريح وكل قتيل ..
نعم كل قتيل .. كل قتيل لم تلوث و تمتهن جثته كانوا يقومون معها بكل واجب عليهم و علي أكمل وجه ..
ارتدوا الأزرق كما ترتديه قوات الحماية الدولية ، وعندما لجأ لهم البعض قتلوهم شر قتلة ..
و قوات الحماية الدولية انسحبت و اختفت كما اختفي صوت العالم عما يحدث، و عميت أعينهم عن مجازرنا .. هل هناك كلمة أفظع من هذا ؟
و هل هناك تعليق ؟
-----------
عفوا نسيت أن أتحدث عن سربرينيتسا و كيف أصبحت ...
السماء سوداء .. الأرض سوداء و أحيانا حمراء و لا شيء آخر .. تبسيط مخل !
 ربما .. هذه هي الحقيقة .. البيوت مدمرة و نهبت – عن آخرها بلا استثناء – و قبلها بأشهر كان القصف الرهيب تكفل بتدمير كل ما يمكن تدميره .. و الآن هو دور البشر .. كل من ذكر قتل سواء كان رجلا أو شابا أو طفلا أو حتي رضيعا و النساء رحلوا إلي حيث المعسكرا ت و لم يكن لهن أحد ...
أما أنا فكان لي شأن آخر ..
-----------
أما أنا فطفقت أهرب بين الأحراش و الغابات .. كنت آخر من هرب من القرية .. تستند أمي علي كتفي، و يتكأ كل منا علي الآخر .. و نحن الاثنتين الضعيفتين الهاربتين ؛ علي الصبر نتعكز.
تعبت كثيرا و بدأت أشعر بالهلوسة، شعرت كما لو أن كل ما حولي ينهار، علمت وقتها أن سربرينيتسا تموت و تلفظ أنفاسها الأخيرة..
كم اشتهيت كوبا من الماء و قليلاً من الملح، أما الماء فلحاجتي الطبيعة إليه .. أما الملح فلأخفف من الهلوسة و أؤخرها لقليل من الوقت أعتني فيه بأمي.
كنا نشرب من برك صغيرة تجمعت حول الأشجار .. لم تكن نظيفة تماما، أقصد لم تكن نظيفة علي الإطلاق ، لكن الحياة كانت مميتة.
أخبرتني أمي أن مساعدات من دول عربية كمصر و قطر و الإمارات ستصل قريبا، تخلينا عن الطعام ، وعشنا علي الأشجار مثل الحيوانات، نقتات من الأشجار طعامنا و غذائنا.
يا تري هل سمع بنا أحد ؟

السبت، 10 أغسطس 2013

ماذا لو تتوقف بي الحياة كل يوم نصف ساعة !!



ماذا لو تتوقف بي الحياة كل يوم نصف ساعة 
و انسي هموم الحياة و بها و ما لها و ما فيها 
و اسرح كطفل صغير بريء و نشيط 
و أجلس كما كنت افعل وا نا صغيرا 
اخلط الماء بالرمل علي الشاطيء 
فتصبح الرمال اكثر تماسكا 
أبني بها أشكالا متعدده 
و أوهم نفسي اني أبني قلعة 
و أصنع حولها أخدودا 
و أوصله بماء البحر ليمر فيها 
لتنساب مياه البحر حول قلعتي 
و أرسم في أطراف القلعة أبراجا 
و أضع فوق كل برج علما 
ليرفرف بها بكل حرية 
كنت أسرح و أنا صغير و استمتع بما أفعله و ابني و ابني 
قلعة و قلعة و قلعة 
واحدة لي 
و اخري لأخي 
و اخري لصاحبي 
و بين كل قعلة و قلعة نرسم حدودا و أسوارا 
و كأن حربا يجب أن تقوم بين القلاع و بعضها 
و هناك مهزوم و منتصر 
كنا أطفالا حقا .. 
اليوم أريد أن أعود و أبني قلعة واحدة فقط بسور واحد فقط و علم واحد فقط 
أريد ها قلعة واحدة .. وطن واحد 
نجتمع فيه كلنا علي الحب و الإخاء و البناء 
و يكون لكل منا مكانه و احترامه 
و يشعر فيه كل منا أنه انسان 
دون تمييز او تجريح أو اقصاء لأحد 
لازلت أشتاق لوطن يأمن فيه الجميع علي ارواحهم و أفكارهم و أموالهم .. 

الثلاثاء، 11 يونيو 2013

الفتاة التي ..... !!

الفتاة التي ..... 





الفتاة التي تقرأ و تفكر و تطبخ و تقود السيارة و تخطط لرحلة سفر و تتجمل لمن يخصها بالطريقة التي تخصها ..
 و تتفقد قلبها قبل أن تنام و تتفقد بريدها الالكتروني بالصباح ..
كما أنها تغلق الاضواء كلما غيرت مكانا و تغسل ثيابها و تنشرها و هي تستمتع برائحة الصابون المتطايرة ..
و ترسم و تحتسي قهوتها كما لو كانت تجلس فوق سطح منزل جميل كان مكانا لطيفا بأحداث رواية لطيفة قرأتها يوما و تقاسمت حلاوتها مع ضوء القمر ..
الفتاة التي تتغافل كثيرا و تقول في كل مرة تغض الطرف فيها عن أخطاء الآخريين .. لنا رب غفور فلما لا نتجاوز .. نتجاوز ليتجاوزنا الله بعفوه و رحمته .
الفتاة التي تشعر أنها حين تمشي تكاد تطير .. تطير و تحلق بـأخلاقها إلي العلياء ..
الفتاة التي تتكلم و تناقش و تعرض رؤيتها بناء علي علم  و معرفة و تُتبعه بمهارة و أداء و عمل و إنجاز.
الفتاة التي لا تهتم بصغائر الأمور لكناه تهتم بالأمور البسيطة .. صلاة الضحي، وتر العشاء وابتسامة هادئة لصديقتها و قبلة علي يد والديها ..
الفتاة التي ترتب منزلها بنفسها و تمنح كل ما بمنزلها روح النشاط و الحركة و الحيوية..
الفتاة التي تري نفسها مصنعا منتجا و فيه تُصنع الرجال و تنتج معهم كل معاني الشجاعة والصبر و الاقدام و الكفاح و النضال.
الفتاة التي لا تخجل أن تجلس كل مساء و تنتظر زوجها و تقول له : اشتقت لك يا حبيبي و في الصباح تودعه
 و تقول : اتق الله فينا و لا تطعمنا إلا حلالا ..

الفتاة التي تدرك أنها و زوجها و أولادها و بيتها و كل مافيه هو أصلا قدر الله فهي في ذلك ماضية ومطمئنة ..



الأربعاء، 5 يونيو 2013

أين بطاقتك ؟

أين بطاقتك ؟



شعره الأسود، و ملابسه السوداء، و حذاؤه الأسود، بل و حتى لون بشرته الأقرب للون الأسود لا يعنى بالضرورة أن له قلبا أسودا تماما كلون قالبه الأسود .. ظاهر الأجفــان قد يختلف عن بواطنهــا.
بيد أنه لا روح تسلــم في دهاليـز الحياة من مُصافحة إبرها السوداء التي توخز القلب بوخز فتتبرم.
عند زاوية معتــمة، كان يسير نحوهـا حتي تهادى إلى سمعه صوت غريب، صوت يصرخ بقوة،  ثم يتعالى الصراخ، يتحرك الصوت بجنونه لـيعبر المسافات، و يكسر الحواجز، و يتخطى الأسوار، محدثا في الصميم حركة خفية نابتة في الأضلع .. هـي حركة الأحاسيس، تتحرك في همس في مجرى الوريد، يتلاقى الهمس مع الهمس، كالسحب المثقلة عندما تندمج معا وتكبر و تعلو ، الهمس يصير هزة ثم صرخة ، صرختين ..
 آآآآآه
 الصراخ يثير الحركة.
للتو، و بسرعة يتحرك صاحب القالب الأسود، يتحرك برباطة جأش، بحماسة، على الأرجح كان الخطب خطيراً، يندفع نحو الصراخ، يندفع بقوة المشاعر و العواطف، و يعبر الطريق باتجاه الصراخ شاقا الغمام، يلمحها من بعيد، تستنجد بصوتهـا المتألم.
هو و بكل شجاعة يكسر حواجز متعددة، يحطمها، يدمرها، و يقذف بها بعيدا عن طريقه، لا مكان لها الآن.
ما يحثه على المسير دافع داخلي قوي لا بياضهـا الناصع المطعم بالشقار وملامحهـا الجميلة.
ينجح في الاجتياز والتنقيب عن صاحبة الاستغاثة، يدرك الصراخ واضحا.
كلما أقترب أكثر كلما اتضحت له الرؤية، يرى النزيف، وتلك الدموع الهاطلات، تهتز بداخل تلابيبه حركة أخرى، خفية كعادتها، حسية كأختها الأولي لكنها تحرضه باندفاع ليقترب أكثر فأكثر.
نعم هو يقترب، يقترب بلا خوف، بلا تردد و بلا قلق، بلا ورود، بلا أسلحة.
ينحني نحوها.
يفحص المشهد عن قرب، يتأملها لبرهة، فيدرك هول الحدث بعد برهة، و بسرعة يخلع رباط عنقه الأسود لـ يضمد به مكان النزيف الأحمر.
يمتص اللون الأسود اللون الأحمر، كأنه خبير في مثل هذه المواقف يربط الجرح جيدا ، ليختف بعض من حمرة الأحمر، و يزداد الأسود سوادا كي يختفي الأحمر!
يربط الجرح ربطة أخرى، يعقدها جيدا، يزداد الألم الرابض فيهـا، تتعالى صرخاتهـا وتأوهاتهـا.
-         لا تقلقي ستكونين بخير.
يهدأ الصراخ بعض الوقت لكنه لا يتوقف.
للتو يحملها بين ذراعيه، تحاول هـي التغلب على أوجاعهـا، تتشبث بيدها في ملابسه السوداء، تعصرها بين أصابعها بقوة، بكل إصرار، كما لو كانت تتشبث بالحياة، و الحياة هنا فـي ملابسه السوداء التي تلامس أطرافهـا.
يجرى بها بقوة، باندفاع، بحماسة، ليزداد شهيق صدره، لتزداد نبضات قلبه و ليزداد عرقا.
يستمر يجرى و يجرى بسرعة محاولا الهرب من الموت، و الحقيقة أنه يهرب إلى ما قبل الموت.
تعرفون الموت؟
تعرف ما قبل الموت ؟ ، تعرف ما بعد الموت ؟
فيما قبل الموت كان يهمس لروحه بأن منافذ الحياة تقترب إليهما كلما أسرع المسير، و بذلك يزداد الخطى، و يتناسى الجهد المضني، و يدير ظهره للألــم.
لكن ما أن يبدأ الشعور بالتعب يغلبه، يهدأ المسير، يزداد الشهيق، و يقل الزفير، ينقبض صدره أكثر مما ينبسط، يزداد تعبه، و يعلو صوت الشهيق، يعلو و يعلو.
يتوقف المسير معلنا التعب مع الألم.
دموعها تتحرك، تسيل، تنهمر بقوة و بعنف لتبلل قميصه الأسود، تنتشر الدموع بين ألياف ملابسه، و كأن الدموع صارت كالوقود تدفعه ليتحرك من جديد، كأنها ترجوه:
- تحرك أيها الأسود، تحرك لا يهم أنك أسود أو أبيض، تحرك لنتحرك معك.   
ليدرك هول المصيبة، يتحرك الذي بداخله من جديد، ليتحرك شيئ جديد معه، إحساس جديد، حُلم جديد، ليتحرك صاحب القالب الأسود من جديد، و يجرى و يجرى ليهرب بها نحو الحياة.
يزداد الشهيق من جديد، يزداد النبض من جديد، و تتسع حدقة عينه ليرى الصورة في مُجملها واضحة شارقة كمدينة القاهرة - مسقط رأسه- ، باسمة بابتسامة المصري الصبور، تخبره بكل وضوح أن الأمل أبدا لا يموت.
تتنهد البيضاء المُتعبة، يهتز لسانها، هزة .. هزتين .. ثلاث ..أربع، و تتنهد.
و تتحشرج الكلمات على شفتيها بصعوبة.
- هل سأعيش ...؟   
يسمعها بوضوح، تتنهد ، تترقب إجابته بطرف حزيـن، لكنه يتعالى عن الإجابة، يفضل الصمت ويستمر في الجري بلا توقف.
يستمر بلا وهن و بلا تعب و بلا راحة، لم يعد لديه وقت يضيعه كي يهرب بها إلى الحياة، أو لتموت و معها يموت أمله.
فرصته ليحقق أمله.
بلا شك له قلبُ أبيض قادر على الوصول، و قادرُ على التواصل.
يجرى و يجرى بكل حماسه.
يلمح شيئاً أبيض من بعيد يقترب منه شيئا فشيئا، فيجرى نحوه، و يتجاهل صوت الشهيق ، ويتجاهل الدموع، و يتجاهل الجميع ليقترب أكثر و أكثر مما هو أبيض، و كأن الحياة في ذاك الأبيض !
يدركها جيدا، إنها سيارة الإسعاف، يرفع ناظريه نحو السماء، يشعر بنجاح المحاولة، يشكر الخالق، ويواصل الجري فلم يتبقى سوى بضع أمتار، أربع أمتار، مترين، متر واحد.
و أخيرا يتوقف للتو، يلتحم بالسيارة البيضاء، بسرعة يُفتح باب السيارة.
سيارة الحياة تفتح أبوابها.
يُفرغ حمولته، عفوا ي.. ُفرغ بعضا من إنسانيته المنهمكة في بكائها.
يريحها برفق على سرير الإسعاف، و برفق يجلس بجانبها.
تتنهد، تشعر بالبرد، تهتز أطرافها من جديد ، ترتعش، بسرعة يخلع معطفه الأسود، يغطيها جيدا، تستمر فى رعشتها، تتراطم أسنانها، و تحدث أزيزا.
يرتخي جفناها، يمسح الأسود بحنو على شعرهـا ويهمس:  
-         الأمل لا يموت، لن تموتي، صدقيني ستعيشين.
تتشبث به، تُعلق يدها بيده، يندمجان، كأنه هو حبل الحياة تعتصم به لينتشلها من براثن الموت.
الآن يدرك أهميته في الحياة، يتحرك نحوها أكثر فأكثر، يقترب .. أقرب فأقرب، لتتلاشى المسافات، يطبع قبلة على جبينها ثم يجر شفاهه المتفحمة على جسر أنفهـا حتى يصل لفمها، تخفت أنفاسها الساخنة، ينقبض قلبه، يشد على يديها، ينفخ بكل قوته في فمها، و يستمر ينفخ و ينفخ بلا وهن و بلا توقف، هي قبلة الحياة ، المحاولة الأخيرة لينقذها من الموت كي لا  تكون قبلة للوداع.
تهدأ سيارة الإسعاف في سيرها، تقل السرعة حتى تتوقف السيارة على جانب الطريق.
يُفتح باب السيارة على إيقاع حزين، ينزل من السيارة بمفرده، يجر جرحاً بأعماق روحه يسكن، يغلق خلفه باب السيارة بسرعة، تمضى السيارة، ليجد نفسه أمام عدسات الإعلام و رجال الصحافة.
يقف وحيدا، تبدو عليه علامات الأسى.
يتوافد عليه الصحفيون، يحيطونه  من كل صوب، تتوالى عليه الأسئلة و علامات الاستفهام، يتنهد و يقول:
-         حاولت إنقاذها ...
يصمت قليلا ثم يردف:
-         لكن  .. لكن  الأمل يبق موجود.
تدمع عينياه، يجففها بأطراف ملابسه، يسود الصمت برهة .. برهتين .. ثلاث.
يتعالى صوت من بعيد، بلا رأفة، بلا رحمة:
-         أي أمل هذا يا أسود ؟!
تصدمه الكلمات، تزلزل كيانه، لكنه يتجاهلها، يتجاهلها كأنه لم يسمع شيئا، ثم يسير مبتعــدا يبتلعه الغروب، يقترب أحدهم مكتوب على قميصه police  ثم يسأله:
- أين بطاقة هويتك ؟ ليس معك بطاقة هوية ؟ أنت مهاجر غير شرعي ؟

تصدمه الكلمات تزلزل كيانه، يحاول أن يتجاهلها كأنه لم يسمع شيئا، ثم يسير بصحبة رجال الشرطة إلى مكتب التحقيقات.